جدلية الفكر والعمل في العالم الإسلامي 2-2

كتب بواسطة: Super User. Posted in فلسفة ومنطق

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

جدلية الفكر والعمل في العالم الإسلامي 2 – 2

بقلم / عبد الرحمن (ود الكبيدة)  

      تناولنا في المقال السابق وجهتي النظر التي تقول أحداهما بأهمة الفكر، وتقول الأخرى بأهمية العمل. ولكنا نرى أن هذا الطرح فيه كثير من التعسف والتحكم الذي لا يخدم قضيتنا. فقضيتنا هي أن نفكر ونعمل معاً، وليس أن نقصي أحدهما (الفكر أو العمل) ولا أن ننحاز إلى أحدهما، تاركين الآخر وكأنه لا يعنينا في شئ.

      إن مثل هذه النظرة الأحادية الإقصائية قد أضرت بعالمنا الإسلامي ضرراً بليغاً. وأوجدت فرقاً تنبذ بعضها بعضاً. فنحن نرى وجوب تكامل النظرتين، لا تنافرهما.

 تكامل العلم مع العمل:

1- إن الحديث عن إما العلم أو العمل هو بحث في العلاقة بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، بين الإمكانية والتحقق، بين المثال والواقع. وهو بحث أحادي النظرة، لا يخدم تكامل المعرفة.

2- فمن العلم ما هو نظري: مثل علم التوحيد الذي يتولد منه سلوك رأسي مع الله في علم العبادات. ومنها ما هو عملي: مثل السيرة للاقتداء، وفقه المعاملات، ومن هذا العملي يتولد سلوك أفقي مع الإنسان في المعاملات.

3- إننا نجد أن التصوف نزعة عملية تقوم على الرياضة والمجاهدة، ولكن يسبق هذه المجاهدة علم. "من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم"، ثم يعقب هذه المجاهدة علم من نوع آخر.

4- النظر والتفكر في الطبيعة وفي خلق السماوات والأرض يؤدي إلى فهم التوحيد، كما أن البحث عن التوحيد والنظر فيه يقود إلى النظر في الطبيعة لفهم مقدرة الخالق عز وجل. فهذه علاقة تبادلية بين الفكر والعمل.

5- قال تعالى: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الأعراف، 129. والنظر هنا هو محاسبة على أعمال القلب الإيمانية وأعمال الجوارح الظاهرة معاً من دون تمييز لأحدهما على الآخر.

6- جاء في الأثر: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"؛ وهذا الحسن يصب في المصلحة العامة، وهذا شأن عملي قوامه النظر في المصلحة المرسلة التي تمليها ظروف الحياة المعيشة في الواقع المجتمعي الذي يفرز فهماً يتناسب مع هذا الواقع مراعاة لخصوصيته، دون الانتقاص من عمومية المعرفة البشرية. وهنا تسود مقولة "كلية المضمون وخصوصية الشكل" التي تظهر في شمولية الفكر لكل البشر وخصوصية التطبيق في واقع المجتمعات. فها نحن نرى أن الفكر الذي يحتكم إلى رؤية المسلمين يسنده تكامل فهمهم النظري مع واقعهم العملي. ومن هنا فقد انبنى على تجاوز أسباب النزول العملية قاعدة تنظيرية مفادها الاحتكام إلى عموم اللفظ لا خصوص السبب.

7- إن النية التي عليها مدار قبول العمل، هي عمل قلبي بدونها لا معنى للعمل. ولكن بالمقابل فإن نية بلا عمل هي تمني على الله شجبته السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسهه هواها وتمنى على الله الأماني". فلا النية بلا عمل تحقق شيئاً، ولا العمل بلا نية يجد قبولاً.

8- إن هذه النظرة الوسطية التوفيقية هي التي قام عليها أمر الدين الإسلامي. قال تعالى: (والذين أذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان، 67. قوام الشئ هو توسطه واستواؤه من غير اعوجاج أو ميل إلى جهة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوسطها".

      إذاً فالعلاقة بين النظر والعمل هي علاقة تبادلية، وليست تنافرية ولا إحلالية. فلا يضر الفكر البشري إلّا هذه الإنكفائية على الذات التي تنشأ بسبب التشبث بالرأي الواحد - في مجالات الاجتهاد - ومحاولة اختزال الآخر وإقصائه. وما رفضت الأمم العولمة إلّا لأنها تعمل على قولبة الفكر وصب الثقافة في بوتقة واحدة يسود فيها هيمنة منهج بعينه، ويمسخ غيره من ثقافات. غير أن الإسلام يحفظ للأمم شخصياتها وتنوعها، قال تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) الحجرات، 13. فالتعارف والتمييز والإيضاح يكون بين مختلفين، وقد قيل: "وبضدها تتميز الأشياء"؛ فالأسرة الواحدة يتعارف أفرادها بالضرورة بحكم التصاقهم ببعض. ولكن الاختلاف القبلي هو الذي قصد به التعارف، والتحرك نحو الإئتلاف، لتكون وحدة البشرية في تنوعها.

      فإن كنا نرفض الفصل بين النظر والعمل، فإننا أيضاً نرفض خلط الأوراق بينهما. فالعمل هو التطبيق المادي المرئي للفكر، ومن هنا يجب نقد أفكار الناس وليس شخصياتهم. لأن نقد الشخص قد يكون بدافع مهاجمة سلوكه العاطفي وأوصافه الشخصية التي قد لا تمت إلى فكره بشئ، ولا سيما إذا راعينا التناقض في السلوكيات التي تحكم الشخصية وتجعلها تتخذ موقفين متناقضين من قضية واحدة، كالتستر على إجرام الصديق وكشف إجرام العدو، علماً بأن التستر هو هو، بغيض في كلتا الحالتين: حالة الصديق وحالة العدو. وبهذه المقاييس اللاعقلانية يأتي نقد الشخص لا نقد الفكرة، وهو ما عرف في المنطق باسم (Ad hominem Argument)، وهذا يعني رؤية العامل لا العمل، تلك الرؤية التي تناقض قوله تعالى على لسان عبده: (إني لعملكم من القالين) الشعراء، 168.

 

                                                    وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.                                                                               

  انتهى