بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جدلية الفكر والعمل في العالم الإسلامي 1 – 2
بقلم / عبد الرحمن (ود الكبيدة)
كان البحث في مسألة العلاقة بين النظر والعمل شغل البشرية الشاغل على امتداد العصور السالفة. واليوم أيضاً يحتدم النقاش في هذه المسألة في الأوساط الإسلامية بين المفكرين المسلمين. وتتسع شقة الخلاف بين مؤيد للعقل النظري، يقدم آجل النظر على عاجل العمل، وفريق آخر يرى أهمية العقل التطبيقي، أي يقدم عاجل العمل على آجل النظر. وقد تمسك كل فريق
برأيه، فالفريق الأول ذهب إلى حد إعادة صياغة الكوجيتو الديكارتي: “أنا أعلم، فأنا إذاً موجود”؛ ونادى الفريق الآخر بعكس الأول، قائلاً: “أنا أعمل، فأنا إذاً موجود”. وما دروا أن الفرق بينهما هو مجرد ترتيب حروف ومدخلات متفقة: (ع ل م) أو (ع م ل)
فنحن في هذا المقال نتناول كل من وجهتي النظر، لكي نقف على مدى صحة التبريرات التي يوردها كل فريق ليدعم بها فلسفته.
أولاً: أسبقية النظر بالفكر وأهميته على العمل:
والفريق المنادي بهذا الرأي يورد الحجج التالية:
1- قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون) الذاريات، 56. ففي بعض التفاسير قيل: “يعبدون” تعني “يعرفون”. فلا عبادة لله تعالى دون معرفته. ولهذا كان أول ما يجب على المكلف معرفة توحيد الله عز وجل، أي معرفة صفاته وأسمائه الحسنى. والتوحيد علم في ذاته نظري، إلّا أنَّ آثاره عملية تتمثل في عبادة المخلوقِ خالقه، تلك العبادة التي تشمل أفعالاً يقوم بها العابد.
2- وقال عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الأنبياء، 7.وسؤال أهل الذكر يكون من أجل اكتساب العلم الشرعي الذي يسبق العمل، فمن لا يعرف لا يعمل، وإلّا فيعمل ماذا، دون العلم ؟ فكثيراً ما يترتب العمل بعد العلم، قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) يونس، 9. وتبيان لهذا المفهوم فقد جاء الحديث الشريف يصف الإيمان بأنه: “ما وقر في القلب وصدقه العمل”.
3- والعمل الصالح يبدأ بالدعوة إلى الله، وهذا عمل الأنبياء الذين يدعون البشر إلى عبادة الله، مستعينين على ذلك بتطبيقهم العملي لدعوتهم، قال تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) فصلت، 139.
4- (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة، 105. فلن يفيد عملكم دون تقييم نظري من جانب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
5- قال تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل، 40، تنبيهاً على أنه اقتدر على الإتيان به بقوة العلم.
6- قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب” . دل على أن العابد بعلم قليل أدنى مرتبة من العالم.
7- التخطيط هو إعمال الذهن على توقع حدوث الآجل ووضع الخطط لمجابهة هذا الآجل، مستنداً على التفكر في مآلات المستقبل، ففي الحديث النبوي الشريف: “أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً”.
ثانياً: أسبقية القيام بالعمل وأهميته على الفكر:
وأصحاب هذا الرأي يقدمون ما يلي من شواهد:
أ- ورد في الأثر: “لا يكون المرء عالماً حتى يكون به عاملاً” الغزالي في الإحياء، 1/68 وقال رواه البيهقي.
ب- كما ورد في الأثر: “تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا” كنز العمال، 2818.
جـ- (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف، 2 ، 3. وقد عدَّ العلماء القول بلا فعل من مراتب النفاق.
د- قال بعض العلماء: “كل مسألة لا ينتج عنها أثر عملي عارية عن العلم”. ولهذا اعتبر بعض العلماء الفقه التقديري نوعاً من التعسف، فكانوا يقولون: “دعها تقع – أي الحادثة – ثم جد لها الحل”.
هـ- والفكر الخاطئ قد يكون منشؤه التطبيق الخاطئ المتوارث عبر تكرار العمل. ومن هنا يأتي إصلاح الفعل أو العمل عن طريق الممارسة العملية السليمة. ولهذا كانت القدوة العملية من آكد مصححات الأعمال. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي” البخاري، 78 كتاب الأدب، 27 باب رحمة الناس والبهائم، ص 1278، حديث رقم 6008. وقوله صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني مناسككم” سنن البيهقي، 5/125.
تلك هي أبرز نقاط الدعم لكل فريق، وفي المقال القادم سوف نبحث في مسألة التوفيق بين الحكمين أو النظرتين، متخذين من التوسط والوسطية ميزان اعتدال نحكم به.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.