بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
علاقة الشعر بالغناء 3 -3 (التواجد الصوفي)
التواجد والطرب أو الإنفعال النفسى:
التواجد حالة نفسية تصحب السماع، ويتحرك الجسد في هذه الحالة بإملاء من المشاعر الروحية التي تنتاب نفس السامع. إن رؤية الفؤاد لتجليات الحق “كأنك تراه” في مشاهد النور المحض تنزع الروح بغتة إلى
تلك المشاهد العليا فلا يقوى البناء الجسدي والوعي الفكري على مساوقة هذا السمو الروحي والدفق النوراني وينتج من جراء ذلك تعطل حركة الجسد لغياب مراكز الحس والإدراك الحسي، وقد يصحب هذا التغيير الجسدي ثقل في الجسد، إلّا أن ما يحدث فيما بعد من النشاط وخفة الروح والجسد والاحساس بالسرور والانشراح في هذا الحال هو العلامة المميزة له كحال رحماني، وفيما يعتري رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم من برحاء الوحي حينما يأتيه الوحي مجرداً من الوسائط الكثيفة مما يمكن أن يشكل ملحظاً دلالياً يصلح الاستئناس به في هذا المضمار.
1- برحاء الوحي:
أ- قال زيد بن ثابت: كان الوحي إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك ويحار جبينه عرقاً كأنه الجمان. المعجم الأوسط، للطبراني، ج 6، ص 151، الحديث رقم 5880.
ب- عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً مثل الجمان، ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو الكسرة، فأكتب وهو يملي، فلما أفرغ تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرءان، وحتى أقول لا أمشي على رجلي أبداً، فإذا فرغت قال: اقرأه فأقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس. المعجم الأوسط، للطبراني، ج 2، ص 303، الحديث رقم 1934.
جـ – وربما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فترعد حتى يظن أن ذراعها ينقسم، وربما بركت. وجاء أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. السيرة الحلبية، للإمام علي بن برهان الدين الحلبي، ج 1، ص 257.
2- حركات الجسد:
إنه عندما تستقبل الروح أنوار القرءان الكريم وذكر الله تعالى، أو سماع الحديث الطيب، ينفعل الجسد مع الروح ويظهر التعبير على الجسد بطرق شتى، منها:
أ- البكاء: عن أبي بن كعب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقرئك القرءان”، قلت: أو ذكرت هناك ؟ قال:” نعم”، قال: فبكى أبي، قال: فلا أدري أشوقاً، أو خوفاً. المعجم الأوسط، للطبراني، ج 2، ص 218، الحديث رقم 1700.
ب- قشعريرة الجسد: قال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد). الزمر، 23. فحركة القلوب والجلود فيها نوع من التواجد، وهو تناغم الجسم مع الروح. وقد ذمت الآية التي قبلها قسوة القلب التي تبعد المرء عن التجاوب والتفاعل مع القرءان الكريم، قال الله عز وجل: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين). الزمر، 22.
جـ- تحرك الجسد: عن علي رضي الله عنه، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر وزيد فقال لزيد: “أخونا ومولانا”، فحجل زيد، وقال لجعفر: “أنت أشبهت خلقي وخلقي”، قال فحجل وراء حجل زيد ثم قال لي: “أنت مني وأنا منك فحجلت”، وراء حجل جعفر. مسند البزار، ج 2، ص 316، الحديث رقم 744.
وفي رواية أخرى: سمع سيدنا جعفر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أشبهت خلقي وخلقي”، فحجل إظهاراً للفرح. وقال لعلي: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى”، ولزيد: “أنت منا ومولانا”.
البخاري، 53كتاب الصلح، 6باب كيف يكتب هذا ما صالح عليه … ، الحديث رقم 2699، و في أسد الغابة، لابن الأثير ج 1، ص 392.
3- خروج الجسد عن طوره بالصعق أو الغيبوبة أو نحو ذلك:
1- الصعق لسماع بعض الكلام: إن من الأصوات ما يصعق سامعه ففي الحديث: “إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شئ إلّا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق” صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب كلام الميت على الجنازة، ص 239، الحديث رقم 1380. ومن هذا الباب فقد صعق بعض الصحابة لسماع بعض آيات من القرءان.
سمع سيدنا عمر رضى الله عنه رجلاَ يقرأ: (إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع)الطور، 7، 8، فصاح صيحة وخر مغشياً عليه، فحمل إلى بيته فلم يزل مريضاً في بيته شهراً. إحياء علوم الدين، كتاب آداب السماع والوجد، ج 6، ص 186.
2- الاستغراق والجذب في المشاهدة: خطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه، ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص 32، الحديث الثاني. وقال أخرجه أبو نعيم وغيره.
3- إضرار الجسد: إذا نزل وارد السماع وكان أكبر من أن يتحمله الجسد، تفسخ الجسد وصدر عنه بالتنفيس ما يضره لو صدر بدون حال سماع صادقة. فهؤلاء نسوة قطعن أيديهن لما ثقل على أجسادهن حمل المشاهدة، قال تعالى: (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) يوسف،31، قطعن أيديهن بسبب الدهشة والحيرة فى المشهد.
إن من كان صعقه نتيجة ورود الخير الروحي على الجسد لم يضره الصعق. والشواهد كثيرة على ذلك. فمن السامعين من يسقط على الحجر، ومنهم من يقع على النار، وكل هؤلاء لا يجدون ضرراً من الحجر أو النار، وذلك لأن الجسد وقتئذٍ كانت تقوده الروح، فلا تتأذى هي، ولا يتأذى الجسد الذي هو في قيادها.
بقي لنا في ختام هذا الحديث عن السماع أن نؤكد أن السماع إن لم يعقبه هدى ونور وعلم ومعرفة فوجده طبائعي ولهْوٌ بلا طائل تحته. لقد خلق الله الخلق ليعرفوه. أي أوجدهم في عالم الحس والشهادة ليشهدوه في عالم الغيب والشهود إيماناً به في القلوب التي جعلها الله مناط معرفته، ففي الحديث الشريف: “إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين …… ” المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة ، للسخاوي، حرف الميم ، ص 374، الحديث رقم 990، وقال رواه الطبراني. فسماع الصوفية – كما قلنا – تنتج عنه معرفة. ورأس المعرفة الوقوف على عظمة الرب وحقارة العبودية بجانب الربوبية، فتدعو هذه المعرفة النفس على التوبة والرجوع إلى خالقها: قال الكليم عليه السلام: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف،143، فهذا علم سيدنا موسى الكليم عليه السلام الذي أعقب سماعه الخطاب الإلهي ووجده.
والمستمعون والقارئون القرءان الكريم يزدادون معرفة بعد وجدهم بالقرءان الكريم، وذلك بشاهد قوله تعالى في الذين يطربهم القرءان، قال عز وجل: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) الإسراء، 107،108،109. وتسبيحهم الله وزيادة خشوعهم إنما كان بسبب زيادة علمهم لَـمَّا تُـلِى عليهم القرءان، لأن العلم سبب الخشية، قال تعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) فاطر، 28.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.