بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
نحو مذاهب إسلامية فى النقد الأدبى 3 الرومانسية
تناولنا في المقال السابق الكلاسيكية وبينا ما فيها من نزوع نحو العقل المحض، متخطية بذلك العاطفة والروح. وفي هذا المقال سنتعرض للرومانسية وما أتت به من اغراق في الفردانية والهروب نحوالطبيعة.
فدعونا الآن نلقى نظرة عابرة على الرومانسية.
يستخدم النقاد تعبير “الرومانسية” في كثير من الأحيان لوصف حركة أدبية اكتسحت أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر ومنتصف التاسع عشر الميلادي. وتأثّرت بها آداب عالمية كثيرة كالأدب العربي. ويطلق عليها العرب”’الرومنطيقية”’، أو “الرومانتيكية” أو ”الابتداعية”– مقارنة بالكلاسيكية التى يطلقون عليها كلمة “الاتباعية”.
والرومانسية كانت في جوهرها ثورة تحررية للأدب من سيطرة الآداب الإغريقية واللاتينية القديمة، ومن كافة القواعد والأصول التي استنبطت من تلك الآداب. وقد صرح أهلها بهذا التحرر في قولهم: (1)
“It was not necessary to imitate anybody in creation…. What pleased yourself, not what Aristotle, Horace, Pope, Johnson had laid down, was to be the rule: “every man is a connoisseur who has not been connoisseured out of his sense””
أى: (ليس من الضروري تقليد الآخرين في عملية الخلق الأدبي، عليك بما يرضيك وليس ما وضع أرسطو، هوارس، بوب وجونسون من قواعد الكتابة، “كل إنسان خبير فيما يكتب فلا يقاد بالقوانين خارج احساسه”).
ولا أدل على ذلك الخروج عن الكلاسيكية من مدلول لفظة الرومانسية ذاتها، فهي مشتقة من كلمة رومانيوس (Romanius) التي أطلقت على اللغات والآداب التي تفرعت عن اللغة اللاتينية القديمة والتي كانت تعتبر في القرون الوسطى لهجات عامية للغة روما القديمة، أي اللغة اللاتينية. (2)
لقد تشعبت دلالات كلمة (الرومانسية), وذكر شليغل إنه قد جمع محاولات تعريف الرومانتيكية في مئة وعشرين صفحة. (3)
أما جاك بروزن فقد رصد مجموعة من التعريفات التى استعملت فى الخمسين سنة الماضية (التى سبقت عام 1955م) ومن هذه التعريفات ظهر أن الرومانسية استعملت لتدل على: حب الغرابة، العودة للقرون الوسطى، الثورة على سيطرة العقل، تبرير مسلك الفرد، الثورة على المنهج العلمي، إحياء فكرة وحدة الوجود، إنعاش النظرة المثالية، رفض سيطرة العرف والتقاليد في الفن، العودة للعاطفة، العودة للطبيعة. ونسبة لهذا الاتساع في المضمون فقد ذكر الباحث (لفجوي Lovejoy) أنه وجد اللفظة تستعمل بتنوع مخيف، حتى أنكر صلاحها للدلالة على شئ واضح محدد. (4)
أما (بول فاليري Ambroise Paul Valery)- (1871م– 1945م) فقد اعتبر تعريف الرومانسية أمراً مقلقاً عقلياً فهو يقول: ‘لا بد أن يكون المرء غير متزن العقل إذا حاول تعريف الرومانسية”.
وشأن أي حركة تحررية تنزع إلى الاستقلالية التى ينتج عنها الاعتداد بالنفس والرأي المنفرد فإنها تخلق أنماطاً متباينة من الفكر، ويتبع ذلك إيجاد أنماط متباينة من الرومانسيات. فكما قال الدكتور محمد غنيمي هلال: “إن هناك أنواعاً من الرومانتيكية بعدد الرومانتيكيين”. (5)
ومع هذا الكم الهائل من المفاهيم الرومانسية يمكننا أن نجمل محتوى المذهب الرومانسي فى التعريفات التالية للرومانسية. فمن تعريفاتها نجد: (6)
1- الرومانسية هي العودة إلى الطبيعة (روسو Rousseau).
2- الفن الكلاسيكي يصور العالم المحدود، بينما الرومانسية تصور اللامتناهي (هايني Heine).
3- الرومانسية هي انسحاب من عالم الخبرة الخارجية العامة إلى عالم الخبرة الداخلية (أبركرومبي Abercrombie).
4- الرومانسية هي الإكتئاب العاطفي (SentimentalMelancholy) (فيلبس Phelps).
5- الرومانسية هي إضفاء الغرابة على الجمال (باتر Pater).
ويتضح من التعريفات السابقة أن هذا المذهب الأدبي يحتوي على جميع تيارات الفكر التي سادت في أوروبا في تلك الحقبة التاريخية.وفي حقيقة الأمر فإن كل هذه المفاهيم قد تناولها الرومانسيون في كتاباتهم الأدبية.
تعد فرنسا موطن المذهب الرومانسي، ومنها انتقل إلى ألمانيا ومنها إلى إنكلترا وإيطاليا.
ترجع الرومانسية الإنجليزية إلى عام 1711معندما كتب (شافتسبري AnthonyAshleyCooperShaftesbury)- (1671م– 1713م) كتابه “الأخلاقيات” وفيه نادى بالإيمان بالطبيعة كمصدر للخير والحق والجمال والعبقرية. ولكنها بدأت مرحلة النضج بأشعار (توماس جراي ThomasGray)- (1717م– 1771م) و(وليام بليك WilliamBlake)- (1757م– 1828م)، وبلغت قمتها في أشعار (كوليردج SamuelTaylorColeridge)- (1772م– 1834م) و(وردسورث WilliamWordsworth)- (1770م– 1850م) و(شيلي PercyByssheShelly)- (1792م– 1822م) و(كيتس JohnKeats)- (1795م– 1821م) و( اللورد جورج غوردون بايرون LordGeorgeGordonByron)- (1788م– 1824م). (7)
أما الظروف التي أدت إلى قيام المذهب الرومانسي فهي ترجع إلى الثورة الفرنسية (1789م).
قبيل الثورة الفرنسية عاشت أوربا حالةً من القلق الفكري المتضارب الفلسفات، والقلق الاجتماعي والسياسي والديني. وقد وصف الكاتب الإنجليزي (شارلس ديكنز CharlesDickens) (1812 – 1870)فى كتابه (قصة مدينتين ATaleofTwoCities) عصر ما قبل الثورة الفرنسية (عام 1775م)، فقال: (8)
(It was the best of times, it was the worst of times, it was the age of wisdom, it was the age of foolishness, it was the epoch of belief, it was the epoch of incredulity, it was the season of Light, it was the season of Darkness, it was the spring of hope, it was the winter of despair, we had everything before us, we had nothing before us, we were all going direct to Heaven, we were all going direct the other way.)
قال ديكنز: (9) (كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الغباء. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان فصل النور، وكان فصل الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كان لدينا كل شئ، ولم يكن لدينا شئ. كنا جميعاً ماضين إلى الجنة مباشرة، وكنا جميعاً ماضين إلى جهنم مباشرة).
وكل هذا القلق والاضطراب وكل هذا التناقض الذي اتسم به ذلك العصر أوجد حالة نفسية، تكاثرت فيها الفيروسات الذهنية للشك والإلحاد، وتمطى فيها الخواء الروحي، ويمكننا الاستشهاد بأبيات فولتير (1694م– 1778م): (10)
إن الكون يناقضك ويناقض قلبك
ويدحض مئة مرة أوهام عقلك
ما هو رأي هذا العقل الأوسع؟
صمتاً ، إن كتاب القدر مغلق علينا
إن الإنسان غريب في بحثه ولا يعرف من أين يجئ وإلى أين يذهب
ذرات معذبة في فراش من طين يبتلعها الموت ، سخرية القدر
إن وجودنا ممزوج باللانهائي ولن نرى أنفسنا أونعرفها أبداً
إن هذا العالم مسرح للكبرياء والخطأ
يعج بالمجانين المرضى الذين يتحدثون عن السعادة .
تلك هي السمات الأساسية للرومانسية، فهي شأنها شأن الفكر الأوربي الذي يشكل تاريخه الصراح من أجل التحرر والفكاك من القيود – قيود الدين، قيود المجتمع، قيود العلم، وحتى قيود الأخلاق.
الهوامش:
(1) George Saintsbury, A Short History of English Literature, p. 726
(2) محمد مندور، الأدب ومذاهبه، ص 55.
(3) جلال فاروق الشريف, الرومانتيكية في الشعر العربي المعاصر في سوريا، ص 13.
(4) إحسان عباس، فن الشعر، ص 41.
(5) محمد غنيمي هلال، الرومانتيكية، ص 5.
(6) جيهان صفوت رؤوف، شيلي في الأدب العربي في مصر، ص 22.
(7) نبيل راغب، المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، ص 21.
(8) Charles Dickens, A Tale of Two Cities, p. 5.
(9) شارلس ديكنز، قصة مدينتين، ترجمة منير البلعبكي، مقدمة القصة، ص 3.
(10) وول ديورانت، قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، ص 175.