بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
نظرة إلى الفلسفة
بقلم: عماد الدين عبدالرحمن ود الكبيدة.
يرتبط مفهوم الفلسفة عند كثيرٍ من الناس بالخيال أو النظرة الممعنة في التفاؤل، فالفيلسوف ماهو إلّا شخص غارقٌ في الخيال يأتي باقوال وأطروحات لا تنطبق على الواقع. وأن الفلسفة ماهي إلّا مجرد سفسطة أو جدال عقيم يقوم على مناقشات كلامية غير مثمرة؛ ولكن قيل الحكم على الشيء فرع من تصوره فقبل الحكم على الفلسفة أو لها لا بد من معرفة أصل الكلمة وما تشير إليه ومعرفة مضمونها وما تحمله في جوفها.
معنى الفلسفة: (Philosophy)
بالنظر إلى أصل كلمة (فلسفة) فإن معظم كتاب التاريخ الفلسفي يرجعون أصل الكلمة إلى اللغة اليونانية ويذكرون أنها تتكون من جزئين: الأول(Philo) يعني حب والجزء الثاني (Sophia) يعني حكمة فيكون مجموع الجزئين (حب الحكمة) فالفيلسوف هو محب للحكمة، ويعزو بعض المؤرخين نسبة مصطلح (فيلسوف) إلى فيثاغورث (Pythagoras) (572 / 479 ق.م) الفيلسوف اليوناني، والبعض يرجعه إلى سقراط (Socrates)(470 / 399 ق.م) وهذا أرجح الأراء.
ولعله من العسير جداً إيجاد تعريف جامع مانع للفلسفة إلّا أنها بشكل عام هي: محاولة بناء نظرة شمولية للكون ضمن إطار النظرة الواقعية، والبحث عن أجوبة تقرب لإدراك الإنسان حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان ومصيره، وما يربط بين هذه الحقائق من علاقات وارتباطات.
و الحكمة التي يتعشقها الفيلسوف هي إما حكمة نظرية تشمل: علوم الطبيعة وعلم الرياضة، وعلم ما بعد الطبيعة، وإما حكمة عملية تتعلق بميادين السياسة، والأخلاق، والاقتصاد.
ويظهر الفرق بين الفلسفة والعلوم الأخرى في أن الفلسفة تتخذ من الكون بأسره موضوعاً لدراستها، فهي تنظر إلى العالم كله كوحدة مترابطة متماسكة، فلا تختص بالدراسة جانباً من الكون دون جانب، و في العلوم الأخرى تجد أن كل علم يلتزم جانباً واحداً من الكون يختصه بالبحث والدراسة، فهي إذن إمتداد للعلوم بمعنى إن العلوم ترتكز عليها وتتعلق بها.
كانت الفلسفة في السابق تشمل كل المعارف العقلية فهي كانت تعرف بأم العلوم. إلى أن جاء العصر الحديث فاستقل كل علم بنفسه عن الفلسفة.
نشوء الفلسفة :
لم يبدأ الفكر اليوناني ناضجاً مكتملاً ولكنه بدأ موغلاً في الأساطير(الميثولوجيا) والشعر والقصص والروايات التي تجنح نحو الخيال، ولعل هذا كان سابقاً على ظهور فلاسفة أيونيا حين سادت أشعار هومر (Homer) (القرن الحادي عشر قبل الميلاد)، وهزيود (Hesiod) (القرن الثامن قبل الميلاد) في (الالياذة والأوديسة) و(الأعمال والأيام).
حتى جاء القرن السادس قبل الميلاد حيث كان مهد نشأتها في مدينة ملطية (Miletus) في إقليم أيونيا (Ionia) في آسيا الصغرى، حيث ظهر في هذه المدينة فلاسفة كانوا أول من حاولوا تفسير الكون على أساس علمي بعيداً عن النظرة الميتافيزيقية والأساطير التي إتخذها أسلافهم وكان من أعلام المدرسة الأيونية: “طاليس (Thales) (624 ق.م / 550 ق.م)، وأنَكِسمَندر (Anaximander) (611 ق.م /547 ق.م) و أَنَكسِمِينِس (Anaximenes)(588 ق.م / 524 ق.م)” ولكن هذا لا يعني أن الإنسان قد أنتظر حتى الحضارة اليونانية، لكي يعمل فكره وعقله للوصول إلى نظرة في الحياة وفهم كلي، فالفلسفة لم تظهر بظهور المصطلح الدال عليها؛ ولكن نجد أن الفلسفة في الحضارة اليونانية قد إتخذت منحىً مختلفاً عما كانت عليه في حضارات أخرى لذلك يصح قول إفلاطون (Plato) (347 ق.م): “إذا كانت الفلسفة تبنى على المعارف العلمية الصحيحة، مهما تكن ضئيلة، فلا شك أن بلاد اليونان كانت مهدها”. ويُقسم تاريخ الفلسفة إلى ثلاثة أدوار: الدور الأول: وهو دور النشوء ويحدد بما قبل سقراط، الدور الثاني: وهو دور النضوج من السوفسطائيين (The Sophists) إلى آخر عهد أرسطو (Aristotle) (384 ق.م / 322 ق.م)، الدور الثالث: دور التدهور والذبول، وهو ما بعد أرسطو حتى العصور الوسطى.
الفلسفة والدين:
لا نريد أن ندلف إلى تفصيلات ومواقف العلماء المسلمين من الفلسفة ولكن لنرجع إلى المصدرين الأساسيين للتشريع في الدين الإسلامي لنتبين موقف الإسلام من الفلسفة، لا نتحدث هنا عن المواقف الفلسفية التي إتبعها كل فيلسوف على حده، بل نعني الفلسفة بمعناها الإصطلاحي الذي ذكرناه سابقاً، نقول: إذا كانت الفلسفة تدعو إلى إعمال الفكر والتأمل للوصول إلى حقيقة الكون والوجود ومحاولة تفسير الظواهر نجد أن في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ما يدعو إلى ذلك ويشير إليه ففي أول سورة نزلت من القرآن الكريم دعوة إلى القراءة والتنوير قال تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم”العلق: ١ – ٥. ثم يدعو القرآن الإنسان للتفكر في الخلق لمعرفة عظمة الخالق عز وجل قال تعالى:”إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولى الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار” آل عمران: ١٩٠ – ١٩١وغيرها من الآيات التي تحض على التفكير والتدبر والتأمل.
ومن أهم التاثيرات التي تتركها دراسة الفلسفة في نفوس الدارسين لها هي تعليمهم ضرورة الالتزام بالعقل والنزول على حكمه وعدم التقليد، بل تدعو إلى تمليك الشخص قدرة على التفكر والإختيار وهذا ما جاء ذكره في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا” سنن الترمذي، أبواب البر، 62 باب ما جاء في الإحسان والعفو، الحديث رقم 2075، ج 3، ص 246.
ويحكم الكثيرون على الفلسفة دون تمهل بالزندقة والضلال بل والكفر أيضاً لما تدعو إليه من التساؤل والتفكر في أصل نشأة الكون ونشأة الإنسان ومصيره ومعنى الموت وهل توجد حياة بعده وغيرها من التساؤلات؛ ولكن نجد إن هذه أسئلة ليست محرمة بل هي مشروعة، فالقرآن يطرح هذه الأسئلة على البشر يقول الله عز وجل: “أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون” الطور 35ـ 36.
الفلسفة لا تدعو إلى الكفر والزندقة ولا تؤدي إلى الشك والضلال؛ ولكنها تريد أن تؤسس المعرفة على قواعد من الأدلة والبراهين وتجيب على الأسئلة التي تشغل بال الإنسان بالمنهج المنطقي الذي يؤسس النتائج والنظريات على مقدمات صحيحة. والقرآن الكريم في كثير من آياته يدعو إلى تأسيس الأراء والمعتقدات على منهج علمي بعيداً عن الأماني و تقليد الأباء والاجداد، وإقامة الأدلة والبراهين على ما يقوله ويفعله الإنسان. قال تعالى: “ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون” المؤمنون 117. وقال تعالى: “وقالوا لن يدخل الجنة من كان هوداً ونصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” البقرة 111.
ما من عمل إنساني إلّا وتشوبه الأخطاء وتعتريه الزلات؛ وذلك يرجع إلى طبيعة الإنسان وضعفه فليس الكمال إلّا لله عز وجل وإذا كانت هنالك أخطاء في مواقف الفلاسفة الفلسفية التي جنحوا لها في سبيل بحثهم عن تفسير للوجود هذا لا يعني أن نرمي الفلسفة ـ وما هي إلّا دعوة للتفكيرـ بالكفر والضلال و ندعو إلى رميها وعدم الإكتراث بها. وهنالك حقيقة تغافل الناس عنها وهي لا سبيل للإنسان للوصول إلى حكم كلي في الحياة والكون إلّا بواسطة نور الوحي والشريعة، وليس الفلسفة إلّا محاولة للكشف والمعرفة، والفيلسوف مهما بلغ من سداد الرأي ونفوذ البصيرة وشمول النظرة لا يقدم لنا حلولاً نهائية للقضايا الكبرى التي تشغل بال الإنسان: اصله، مصيره، وقدره، والغاية من وجوده، فكل ما يقدمه إنما هي حلول مؤقته نسبية تختلف بإختلاف الزمان والمكان والبيئة والعصر والمرحلة التاريخية والاجتماعية والثقافية والحضارية، وقد كفانا حجة الإسلام الغزالي مشقة تقييم مواقف الفلاسفة الفلسفية في كتابه الرائع (تهافت الفلاسفة). وينبغي أن ينظر إلى الفلسفة بنظرة معتدلة لا إفراط فيها ولا تفريط فلا تمجد وتعظم بحيث لا سعادة إلّا بها، ولا تحتقر وتحمل وزر أخطاءٍ ترجع إلى طبيعة البشر وما يعتريها من أهواء ووساوس. كذلك لا تجعل هي والدين في كفتي ميزان واحد وتعقد المقارنات بينهما، فشتان بين ما مصدره العقل البشري وما مصدره الوحي الإلهي، وكذلك لا تعارض بينهما فإذا كانت الفلسفة تحث العقل على البحث والتفكر للوصول إلى حقائق كلية في مباحث الماورائيات والأخلاق والتشريعات، فالإسلام جاء هادياً للعقل في مسائل ما وراء الطبيعة أي العقائد الخاصة بالله عز وجل، و برسله صلوات الله وسلامه عليهم، وباليوم الآخر وبالغيب الإلهي على وجه العموم. وجاء هادياً للعقل في مسائل الأخلاق (الفضيلة والرزيلة) وما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان ليكون شخصاً صالحاً لمجتمعه. وجاء هادياً ومرشداً للعقل في مسائل التشريع الذي ينتظم به المجتمع فتسوده العدالة والحرية. ونحن لا نسعى للتوفيق بين الدين و الفلسفة فنضطر لتلوين الحقائق وتزييفها؛ ولكن ندعو إلى وضع الأمور في نصابها وعدم تحميل الفلسفة ما لا تستطيع، غلواً فيها أو تحقيراً لها، فلننظر إليها باعتبارها سفر ضخم جُمع لنا فيه تاريخ وحركة سير العقل ومراحل تطوره منذ نشأة التفكير الفلسفي في بلاد اليونان .