بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

علاقة الشعر بالغناء 2 – 3 (السماع الصوفي)

مشروعية السماع:   

في المقال الأول ذكرنا إن الشعر والغناء توأمان. أما المقصود بالسماع الصوفي إنشاد الشعر والاستماع إليه، وهو إنشاد مصحوب بالأنغام وآلات الإيقاع. فقهياً: لا حرج فى نظم الشعر وإلقائه. فالشعر يدور مع أحكام الشريعة وجوباً كالدفاع عن الإسلام، وندباً كالترنم بالرجز فى مناسبات الأفراح مثل الزواج، وكراهة كالهجاء، وحرمة كتعظيم ما ينافى الدين مثل مدح الكفار.

      أ- عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام”  الأدب المفرد، للبخاري، ص 256.

      ب- واستماع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر ثابت في السنة. فقد أنشده كثير من الصحابة أمثال حسان بن ثابت، عبد الله بن رواحة، كعب بن زهير، وغيرهم.

      جـ- عن حميد: سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال: “اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة”. فقالوا مجيبين:

نحن الذين بايعوا محمدا         على الجهاد ما بقينا أبدا

   صحيح البخاري، كتاب المغازي، غزوة الخندق وهي الأحزاب، ص 717، الحديث رقم 4100.

      د- ثبت أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كان يهدم صنم (العزى) وهو ينشد:

يا عزى كفرانك، لا سبحانك       إني وجدت الله قد أهانك

      وما ردده الأنصار والمهاجرون وخالد بن الوليد أشبه بأهازيج العمال وقت أدائهم العمل، وما من عمل أطيب من إعداد القوة لملاقاة العدو وهدم الأصنام. وهذه الأهازيج تبعث النشاط والدفء في العمال، ولهذا أسعفهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى فيهم الفتور والجوع.

السماع السني وحركته:

  إن الإسلام قد بني على أفعال الجوارح الظاهرة التي مكانها الجسد، والإيمان هو المعتقد والتصديق الذي مكانه القلب، والإحسان هو العروج إلى سماء المشاهدات ومكانه الروح. وعبادات الدين الإسلامي قائمة على الإسلام والإيمان والإحسان، في توليفة محكمة من الجوارح والقلب والروح.

      أ- العبادة قائمة على حركات الجسم المتنوعة: حركة الصلاة، حركة الطواف حول الكعبة، حركة السعي بين الصفا والمروة، وحركة الهرولة بين العمودين الأخضرين.

      وهذه الحركات الظاهرة لن ينال الله مظهرها ولكن يناله التقوى التي تؤدى بها.

      ب- قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم). آل عمران، 19.  يقول العلامة الألوسي في تفسيره لهذه الآية: “وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمررضي الله عنهما، وابن الزبير، وجماعة من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم: أما قال الله تعالى: (يذكرون الله قياما وقعوداً) ؟ فقاموا يذكرون على أقدامهم، على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية ضمن فرد من أفراد مدلولها”.

      د- قال سيدنا علي رضي الله عنه يصف ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا ذكروا الله مادوا – أي تحركوا – كما تميد الشجر في يوم ريح”. حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني، ج 1، ص 76 .

      ومن منطلق الفرح الروحي الذي حثت عليه الآية الكريمة: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) يونس، 58، فقد انداحت وجدانيات الصحابة والصحابيات ابتهاجاً بمقدم النور إلى المدينة:

      1- ثبت أن بنات النجار كن ينشدن للنبي صلى الله عليه وسلم يوم قدومه إلى المدينة المنورة:

طــلــع البدر عــلينا        مـن ثـنـيـات الـوداع

وجــب الشكـر علينا        مــــا دعـــــا لله داع

       دلائل النبوة، للبيهقي، ج 2، ص 233.

      2 – عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعض المدينة. فإذا هو بجوارٍ يضربن بدفهن ويتغنين ويقلن:

نحن جوار من بني النجار       يا حبذا بمحمد من جار

 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الله يعلم إني لأحبكن”. سنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب الغناء والدف، ج 1، ص 612، الحديث رقم 1899. 

      3- وحثت السنة النبوية على ترويح النفس وإظهار السعادة والسرور:

      – عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال – يعني الدف”. مسند البزار، ج 6، ص 170، الحديث رقم 2214.

      – عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: كانت في حجري جارية من الأنصار، فزوجتها، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسها فقال: “يا عائشة أما غنيتم عليها ؟ ألا تغنوا عليها ؟ فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء”.       المعجم الأوسط، للطبراني، ج 6، ص 14، الحديث رقم 5526.

      وفي حديث آخر ذكرهم بأهازيج الأنصار:

      – عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما فعلت فلانة ؟”، ليتيمة كانت عندها، فقلت: أهديناها إلى زوجها، قال: “فهل بعثتم معها بجارية تضرب الدف وتغني ؟” قالت: تقول ماذا ؟ قال: “تقول:

أتـيـناكـم  أتـيـناكـم         فـحـيونا نحـيـيـكـم

لولا الذهب الأحمر         ما حـلـت بواديكـم

ولولا الحبة السمراء        ما سمنت عذاريكم”

   المعجم الأوسط، للطبراني، ج 3، ص 449، الحديث رقم 3277.

      4- وقد سمح النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الغناء ومشاهدة لعب ورقص الحبشة:

      أ- عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون، وأنا أطلع من خوخة لي، فدنا مني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعت يدي على منكبه وجعلت أنظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنهن بنات أرفدة”، فما زلت أنظر وهم يلعبون ويرقصون حتى كنت أنا الذي انتهيت. المعجم الأوسط، للطبراني، ج 9، ص 222، الحديث رقم 9303.

      ب- 1– عن عروة قال: دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وعند عائشة قينتان تغنيان في أيام منى، والنبي صلى الله عليه وسلم مضطجع مسجّاً ثوبه على وجهه، فقال أبو بكر: أعند رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا ؟ فكشف النبي صلى الله عليه وسلم وجهه، ثم قال: دعهن يا أبا بكر ! فإنها أيام عيد وذكر الله. المصنف، لعبد الرزاق، ج 11، ص 4، الحديث رقم 19735.  فانظر كيف جعل هذا الفرح عيداً وسماه ذكراً.

           2– وفي رواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “دعها يا أبا بكر ! فإن لكل قوم عيداً”. المصنف، لعبد الرزاق، ج 11، ص 4، الحديث رقم 19736.

          3- عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، لعب الحبش بحرابهم فرحاً بقدومه. المصنف، لعبد الرزاق، ج 10، ص 466، الحديث رقم 19723.

          4- عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: بينا الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطاب، فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دعهم يا عمر”. المصنف، لعبد الرزاق، ج 10، ص 466، الحديث رقم 19724.

         5- عن أنس، قال: كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرقصون ويقولون: محمد عبد صالح، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما يقولون ؟” قالوا: يقولون: محمد عبد صالح. مسند الإمام أحمد، ص 864، الحديث رقم 3/152، 12568(12540). فحيث لم ينكر عليهم تكون هذه سنة تقريرية.    

      جـ – عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حادٍ جيد الحداء، وكان حادي الرجال، وكان أنجشة يحدو بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حدا أعنقت الإبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ويحك يا أنجشة، رويداً سوقك بالقوارير”.  مسند الإمام أحمد، ص 962، الحديث رقم 3/285، 14090(14044). 

      أقر النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حداء الجمال لتسير براكبيها، فكيف بحداء أرواح الصوفية لتسير بمطيتها البدنية إلى مولاها عز وجل !

السماع الصوفي:

    لقد جوز العلماء طبل الغزاة لتهييج الفرسان، وطبل الحجاج لتخفيف مشقة السفر عليهم واهتداء المنقطع عنهم إليهم بسماع الصوت، وطبل القافلة لمطلق السفر.

      ومن هنا استخدم الصوفية السماع الصوفي لتزكية الروح ولطرد الوسواس عن صدر المحجوب، وللترويح عن القلوب، لأن القلوب إذا كلت عميت، فجعل لحنظلة من أجل ذلك: “ساعةً وساعةً” سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة، ج 4، ص 75، الحديث رقم 2633. كما جاء في هذا الشأن قوله صلى الله عليه وسلم: “روحوا القلوب ساعة وساعة”. المقاصد الحسنة، للسخاوي، ص 230، الحديث رقم 530.  وقال: رواه الديلمي من جهة أبي نعيم، ويشهد له ما في صحيح مسلم وغيره من حديث: يا حنظلة ساعة ساعة.

      ويصحب سماعهم النوبة والطار. فالنوبة دعوة جهرية موضوعة للجد، لا للهو، ولإيقاظ وسنان الفؤاد ومحب الدنيا.

      ومن ساوى بين الرقص والتواجد الصوفي بحجة أن كل منهما يأتي بحركة موزونة على نغمة موزونة كمن ساوى بين السجود للأصنام والسجود لله بحجة أن كلاً منهما وضع الجبهة والأنف على الأرض وقد أعظم الفرية. فلا ينبغي لعالم أن يحكم على متوافقين في الفعل الواحد بحكم واحد، ومن فعل ذلك فقد لبس عليه، فمخرجه من هذه الشبهة أن يعلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”. صحيح البخاري، كتاب الوحي، ص 15، الحديث رقم 1.

رفع الصوت بالذكر:

  إن ما يصحب النوبة من ارتفاع الصوت والجهر بالذكر لا تثريب على فاعله، فقد دلت الآثار على جوازه:

      1- قال الله تعالى في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه” صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: “ويحذركم الله نفسه”، الحديث رقم 7405.  والذكر في الملأ لا يكون إلّا جهراً.

      2-  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال” أو قال: “بالتلبية”. سنن أبي داود، 5كتاب المناسك، 27باب كيف التلبية ؟ الحديث رقم 1814، وسنن ابن ماجة، كتاب المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية، ج 2، ص 975، الحديث رقم 2922.

      3– أقر النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “مررت بك وأنت ترفع صوتك بالذكر” فقال: يا رسول الله: إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. سنن أبي داود، 5كتاب الصلاة، 315باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل،  ص 209، الحديث رقم 1329.

      4- وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “من قال لا إله إلا الله ومدها هدمت له ألف ذنب من الكبائر”. مسند الفردوس، للديلمي، ص 467، الحديث رقم 5464.

      5– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبق المفردون”. قالوا: يا رسول الله، وما المفردون ؟ قال: “المستَـهتَـرون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافاً”. سنن الترمذي أبواب الدعوات، ج 5، ص 235، الحديث رقم 3666. والمستهترون هم: المولعون بالذكر، المداومون عليه، لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فُـعِـلَ بهم.

      6– وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون”.المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ج 1، ص 431، الحديث رقم 1854، ووافقه الذهبي. ولا يقال مجنون إلّا للذاكر بصوت مسموع، فالذكر في السر لا يطلع عليه أحد، فيتهمه بالجنون !

      عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلّا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم، فقد بدلت سيئاتكم حسنات”. المعجم الأوسط، للطبراني، ج 2، ص 171، الحديث رقم 1579.

      ونحن لانقول أن السماع الصوفي هو عبادة مفروضة. فالسماع مهيج لما في القلوب محرك لما فيها، فالقلوب المعمورة بحب الدنيا يهيج فيها الشهوات، والقلوب المعمورة بذكر الله يهيج فيها الشوق إلى لقائه تعالى. أما الذين تجوزوا وسموه ذكراً فلعلهم نظروا إلى حقيقة المعاني الواردة في السماع فرأوها لم تخرج عن معاني توحيد الله تعالى وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح مما يذكرهم بأيام الله ورحمة الله على المسلمين، فسموه ذكراً، بمعنى كونه مُذكِّـراً لهم بسبل الخير، ولا يقصدون به نوعاً من الصلوات المفروضة أو الأذكار المنصوص عليها في القرءان وكتب السنة؛ كما أن تسمة السماع بالذكر هي من باب قوله صلى الله عليه وسلم: “إنها أيام عيد وذكر” كما مر بنا في الحديث الشريف.

   وصلى الله على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم.

بتصرف من كتاب: “التصوف – فكراً وعملاً، تأليف: ود الكبيدة”
يتبع

Scroll to Top