بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
شعوب وقبائل في أمة واحدة (2)
سبق في المقال رقم (1) الذي يحمل نفس العنوان أن تطرقنا إلى فكرة أننا أمة واحدة ذات شعوب وقبائل متعددة. وتكرر مِنِّي نفس الفهم في تهنئتي للمسلمين بعيد رمضان 1441هـ – 2020م. فاستدرك عَلَّى أناسٌ قائلين: (كيف نكون أمة واحدة وفينا مذاهب فكرية شتى وعقائد متباينة؟)
ولجلاء ما استبهم من المسألة أقول: إن الحديث عن الأمة الواحدة فيه تفصيل؛ فيه الخاص، وفيه العام من الأفهام:
ففي قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدونِ) الأنبياء، 93. قال القشيري: “أي كلكم خِلْقَتُه، وكلكم اتفقتم في الفقر وفي الضعف وفي الحاجة. وأنا خالقكم على وصف التفرد”. (لطائف الإشارات، المجلد 2، ص 306).
وقال العلامة الصاوي: “أشار المفسر – الجلالين– إلى أن اسم الإشارة يعود على ملة الإسلام. والأمة في الأصل الجماعة، ثم أطلقت على الملة لأنها تستلزم الاجتماع. والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم لا اختلاف فيها من لدن آدم إلى محمد، فلا تغيير ولا تبديل في أصول الدين، وإنما التغاير في الفروع، …………. . وحكمة ذكر هذه الآية عقب القصص، دفع ما يتوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعقائد تخالف عقائد من قبله من الرسل”. (حاشية الصاوي على تفسير الجلالين، ج 3، ص 106).
نقول نحن أمة وملة واحدة برسالة التوحيد التي جاء بها كل المرسلين (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء: 25.
وقد تسمى بالإسلام السابقون من الأنبياء. قال تعالى على لسان سيدنا سليمان عليه السلام:(ألا تعلوا علَّي وأتوني مسلمين). (النمل: 31 ). وقال الله عز وجل على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). (الأنعام: 162، 163). هذا على معني الإسلام وهو الإنقياد والإذعان لله تعالى، وهو المعنى العام للإسلام. أما المعنى الخاص للإسلام فهو الاسم الذي أطلق على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا). (الحج: 78). فنحن أمة واحدة باعتبار أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أرسل لكافة الناس، قال سبحانه وتعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون).(سبأ: 28).
ثم إن وضعنا كأمة مختلفة إنما كان هذا الاختلاف في فروع التشريعات التي لا تقدح في أصل التوحيد (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (المائدة: 48).
وبيان ذلك أن الشرعة والمنهاج تختلف في فروع التشريع باختلاف الدين المنزل على الرسول. ومعني الأمة هنا الجماعة الواحدة. ولم يجعلهم الله تعالى أمة واحدة هنا حيث لم يوحد فروع شرائعهم ومناهجهم – وإن توحدت أصول التوحيد في كل الديانات.
وهذا الاختلاف في الشرائع منشؤه التباين في الطباع والعادات والثقافات والظروف الاجتماعية التي تتبدل بحسب الزمن وطول العهد بالأمم، وفي ذات الوقت يكون الاختلاف مدعاة للتطور والتنمية بحسب حركة التاريخ البشري والفهم البشري الذي هو في نمو مستمر. فهل يقول عاقل اليوم بتحريم ركوب الطائرة بحجة أننا لم نلف آباءنا كذلك يفعلون؟
وهذا الاختلاف قد يقع لاهل الديانة الواحد فيما بينهم مِمَّن يقومون بالعزائم ومَنْ يؤتون الرُّخص من أصحاب الأعذار. فلا سبيل إلى تضييق بعض الناس وتشددهم على الناس بالزامهم بما لا يستطيعون، (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (البقرة: 286).
ويلزم من كل ما تقدم من بيان أن البشر كلهم أمة واحدة في ما يراد منهم من عبادة الله وحده، أجل نحن أمة واحدة باعتبار ما يراد من خلقنا (وما خلقت الجن والإنس إلاليعبدون) (الذاريات: 56). غير أننا من جهة أخرى أمم مختلفة في ما شُرِع لكل قوم من شريعة ومنهاج في الديانات السابقة. ومن لم يكن معتقداً أياً من الأديان فدليله إلى الخير عقله وعادته التي لا تناقض الشرع ما دامت تصب في المصالح الأساسية للبشر، تلك المصالح التي يتفق فيها كل الناس باختلاف نحلهم ومللهم – فهل يقول عاقل بأن السرقة فضيلة؟
إذاً كلنا أمة واحدة، تتفق في السعي نحو الخير والصواب الذي هو في صالح كل البشر. فما اتفقنا فيه فهو الحد الأدني للتعامل السلمي بيننا وما اختلفنا فيه فكل موكل فيه إلى معتقده بحيث لا ضرر ولا ضرار. وهذا أس التعاون البشري الذي تحقن به ضغائن كثيرة من الاختلافات.
والغرض من جعل الناس أمماً وشعوباً هو أن يتم بينهم التعارف والتآلف والتعاون (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات: 13).
والغاية من الاختلاف المعرفة والفهم. فلو كانت كل الأشياء بلون واحد لما تبين الحائط من الباب، ولو كان الناس أجمعون على شبه رجل واحد لاختلط الأمر وتعسر التعاون بينهم بيعاً وشراءً واستدانةً على سبيل المثال. ولحكمة ربانية أن خلق الله من كل شئ زوجين على أقل عدد، وحتى في الفرد الواحد خلق الزوجين من يدين وعينين ورئتين وكليتين وما إلى ذلك. فمن نظر بعين واحدة لم تكتمل الرؤية له على طبيعتها. فسبحانه الذي هو وحده الواحد الأحد.
فالذي يريدها أمة واحدة لا تباين بين شعوبها وأفكارها فهو بذلك يسعى للإقصاء الذي ينادي بهيمنة جماعة على بقية الجماعات. واليوم ترفض الفطرة البشرية هذا الفهم والمعتقد برفضها العولمة التي تحاول صب الناس في قالب واحد متجاهلة خصوصيات الشعوب والمجتمعات من ثقافات وعادات ومعتقدات. فلا إكراه في الدين كما لا دين في الإكراه. والحمد لله الذي علم الناس وضع قوانين تقيهم بأس بعضهم لبعض بما فطر في دواخلهم جميعاً من حب المنفعة وكره المضرة – وإن لم يزعنوا لدين سماوي. فإنه قبل أن تنزل الرسالات السماوية تشكلت الفطرة البشرية، مما يوحي بأن الإنسانية مؤكد عليها في نصوص الديانات. ولهذا كانت الرحمة لكل العالمين – إنسهم وجنهم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). (الأنبيء: 107). ولهذا كان الخطاب لكافة الناس: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات: 13).
فنحن أيها الأحباب بشر متفقون فيما ينفعنا كلنا، مختلفون فيما لا نفع فيه ولا ضرر. فما أحوجنا إلى التركيز في نفعنا، وأما ما يضرنا فلنا من الوعظ أو التربية أو الردع القانوني ما نتجنبه به حتى لا تغرق بنا كلنا السفينة بعدم أخذنا بيد الظالم. ومن هنا كانت الديانات السماوية التي تحض على الخير وتردع عن الشر. ومن هنا كانت قوانين الأمم المتحدة الوضعية التي لا ينقص من تطبيقها إلا النوايا الحسنة التي تحق الحق والعدل والقسطاس المستقيم من جهة القائمين عليها.
وعلى الله قصد السبيل