بسم الله االرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
شرح مفردات قصيدة: “غاب البهاء”
تأليف الشاعر الشيخ/ أحمد بن الشيخ دفع الله الصائم ديمه
شرح:عبدالرحمن محمد عبدالماجد (ود الكبيدة)
مـدخــل:
لخليفة الشيخ أحمد بن الشيخ دفع الله الصائم ديمه قصائد وأشعار كثيرة، ألفها ووضع بعضها في ألومات كاسيت صوتية، وبعضها في دوواوين مكتوبة، منها
“ديوان العُبَّاد في مدح خير العِباد صلى الله عليه سلم”. وهذه القصيدة من هذا الديوان
ولقد كتبت مقدمة لهذا الديوان وضحت فيها معظم الجوانب الجمالية والفنية والأدبية التي امتاز بها شعر الشيخ أحمد. وفي هذه القصيدة، التي ألفها الشاعر في والده الشيخ دفع الله الصائم ديمه، سوف يطلع القارئ على ما ذكرت في مقدمتي للديوان، من المزاوجة بين الجدة والتقليد في المعاني؛ والقصيدة في الأساس مزاوجة بين الفصحى والعامية من لغة أهل السودان. ولذلك يجئ البناء الإيقاعي الذي يعتمد على نطق “السين” و “الثاء” و “الصاد” عند السودانيين، فهي حروف توفر الصفير المناسب الذي يكسب القصيدة إيقاعاً للقافية شبه موحد.
وفي حقيقة الأمر فإن هذه القصيدة قد تميزت بالكثير من المزايا الشعرية التي هي سمة بارزة في كل الديوان، وقد بينت تلك المزايا في مقدمتي لهذا الديوان، وهو ديوان ما زال مخطوطاً- لم يطبع بعد؛ نرجو له الظهور إلى النور قريباً.
وحتى لا أفسد على القارئ تذوقه بنفسه لا أطيل في الحديث عن هذه القصيدة؛ فأترك القصيدة تتحدث عن نفسها.
فإلي القصيدة:
نص القصيدة مع شرحها
غاب(1) البهاء(2) المستنـير(3) الفـارس(4) سـيــد إمــام الصائــمـيــن(5) والــوارث(6)
وســمـاحــة(7) وعــفـافــة(8) وزهــادة(9) لله(10) حــقــاً(11) عـابـداً بــل مـخـلـص(12)
بــحــر مـلـيء بـالـجــواهــــر(13) قـلـبـه باللؤلؤ والمرجان أزهى(14) بـل أنـفس(15)
(1) كلمة (غاب) – بخلاف كلمة (مات) – توحي بالاختفاء المؤقت وعن الأنظار فقط كما تغيب الشمس لتشرق غداً. وهكذا يغيب ويختفي الشيخ ليظهر في خليفته وتلاميذه، لا بعقيدة تناسخ الأرواح ولكن بعقيدة الخلف الصالح الذي يدعو لسلفه، وبوراثة الصدقة الجارية المتمثلة في امتداد الأب بقيام ابنه بما كان قد قام به الأب من قبل – (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً – مريم 6).
(2) البهاء هو الحسن والجمال، وهذا وصف معنوي .. ولكن يغيب شخص الشيخ ولا يغيب معناه !! فكأنما أراد الشاعر القول (القمر البهي)، أي شبه الشيخ بالقمر وحذف المشبه به ورمز له بشي من لوازمه وهو البهاء على سبيل الاستعارة المكنية.
(3) المستنير هو مكتسب الإنارة بنفسه، وفي هذا إلماح إلى أن الغالب على نهج الشيخ السلوك والمجاهدة والكسب الذي هو مفتاح الوهب.
(4) الفارس تفيد الصلابة والشدة في الوقوف ضد العدو (النفس والشيطان) وللشيخ باع طويل في هذا الجهاد إذ هو من الذين هم (“أشداء على الكفار رحماء بينهم” الفتح 29).
(5) دوام صيامه جعله سيداً وإماماً للصائمين إذ هم أقل صياماً منه. إنه لما كان الصائم قد ملك زمام نفسه وساد عليها، انتقلت هذه السيادة على أفراد الصائمين. فمن ملك نفسه بالقهر لها فقد استحق الإمامة والخلافة في غيره بالإرشاد لهم.
(6) هذا من باب العلماء ورثة الأنبياء. أن الشيخ بعد أن خضعت له علوم الدراسة فقد تنزلت عليه علوم الوراثة وعلم الوراثة هذا أغلبه هبات ومنح ربانية. وأكثر الأولياء حظاً منه الصائمون لأن الصيام يورث الجوع والجوع يورث الصمت. ومن صمت أمكنه سماع ما يقال والتلقي من المتكلم ووراثة العلم .. ومن كانت له مثل هذه الوراثة في الدنيا كان في الآخرة من الوارثين (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون – المؤمنون 11).
(7) السماحة هي الجود والبذل.
(8) العفافة هي العفة، أي الترفع والكف عن طلب الشيء. والعفة من ثمار الزهد والقناعة، وقد كان الشيخ قنوعاً تكفيه البلغة والحسوة.
(9) زهادة من الزهد الذي هو ترك الشيء والرغبة عنه. جاء في الحديث (أفضل الناس مؤمن مزهد). والقاعدة الفقهية هي أن الزهد في الحرام واجب والزهد في الواجب حرام ..وعند الطائفة أن الزهد يأتي من الورع ويقود إلي التوكل، فمن صح ورعه صح زهده ومن صح زهده صح توكله .. ومن كان عطاؤه وسماحته مثل عطاء وسماحة الشيخ نتيجة عفاف وزهد وخروج الشيء من القلب كان العطاء والبذل سخياً غير مشوب بمنة نادم ولا تردد حريص – انظر كيف يقود الشاعر المعاني لبعضها البعض. زهد يثمر عفة، وعفة تثمر عطاءً سمحاً.
(10) في تقديم الجار والمجرور (لله) على كلمة (عابداً) حصر للعبادة وتوجهها لله .
(11) كلمة (حقاً) تفيد توكيد العبادة وأن الشيخ من المحققين الذين تفقهوا ثم تصوفوا وبذلك ورد مجمع بحري الشريعة والحقيقة. أما تقديم (حقا) على كلمة عابداً يشير إلى سبق النية على العمل، والشيخ مشهود له بعبارة (بالنية) التي لا تفارق قلبه ولسانه إذ كل حركاته وسكناته بنية التقرب لله.
(12) بكلمة (بل) أضرب الشاعر عن المعنى الأول للعبادة الحقه، إذ العبادة قد يرى فاعلها وقت أدائه لها كالصلاة ثم تحول الشاعر إلى ما هو أعمق من ذلك وهو الإخلاص. والإخلاص هو إفراد الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد ونسيان رؤية الأعمال وعدم التشوف، وطرح حظ النفس بإستواء المدح والذم من العامة.
(13) هي جواهر العلم والحكمة.
(14) أزهى بمعنى أنضر وأجمل في منظره.
(15) النفيس هو الغالي فالجواهر والمرجان كناية عن ما ظهر من الحكمة والمعرفة التي تلوح زاهية للناظر.. أما كلمة (أنفس) تعني أن في قلب الشيخ ما هو أعلى قيمة من اللؤلؤ والمرجان، أي فيه ما بطن من الأسرار الربانية النفيسة.
بـالـدر واليــاقــوت(16) قــلـد عـنـقـه(17) ثــوب الـتــواضــع والـمـهـابـة(18) لابـس
وفـــؤاده نــور(19) ســراج(20) نـيـر(21) واضح(22) بهيا(23) في الظلام الدامس(24)
كم(25) أبرأت(26) لمساته(27) ذو علة(28) وبــإذن الله تــحـيي عــظــام الـرامــس(29)
(16) الدر والياقوت كناية عن أوسمة الشرف وأنواط التكريم بسبب التقوى.
(17) إن العنق أو الرقبة هي مناط قلادة الرق لمن لم يكن له صيام يعتقه من شهوات نفسه ومن النار كما أنها أيضاً مناط عقود الأوسمة لتكريم من قام بحق العقبة التي هي (فك رقبة – البلد 13) ومن تقلد هذه الأوسمة الربانية في الدنيا كان في الآخرة من الذين يساقون إلى الجنة زمرا بسلاسل من نور.
(18) من تواضع لله رفعه ومن رفع الله منزلته بين الناس كان مهاباً لديهم. قال البراء ابن عازب رضي الله عنه: كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلمعن الأمر فأوخر سنين من هيبته .. وفي حديث قيل: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلمجالساً القرفصاء أرعدت من الفرق وذلك هيبة له وتعظيماً. فالشيخ دفع الله رضي الله عنهقد أبحر إلى مولاه عز وجل بغارب الرغبوت والرهبوت فلرغبته وانسه بالله اكتسب تواضعه للخلق وحبهم له وبرهبته وخشيته لربه اكتسى بأنوار الهيبة فهابته الخلائق .. وهذا الحجاب النوراني يحفظ للولي وقته مع ربه حتى لا نشغله نحن بخطابنا له بسفاسف أمورنا والشيخ في حال بشريته. أما إن كان الشيخ في حال روحانيته فالمقصود بحجاب الهيبة هذا أن لا ننشغل نحن بسفاسف أمورنا التي تشغلنا عن الله وهي لا تشغل الشيخ إذ ليخرجه فرقنا له عن جمعه بربه.
(19) فؤاده نور يهديه هو في سيره لله ويهبه فراسة المؤمن والنظر بنور الله.
(20) سراج أي مصباح.
(21) بما أن قلبه مصباح فهو آلة إنارة تنير الطريق للآخرين وتهديهم سبل الرشاد فالشاعر يعني أن الشيخ – حسب الحديث الشريف – هو كأرض أمسكت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فنفع الله بها الناس فشربوا ووزعوا وهذا مثل ضربه الحديث الشريف لمن فقه في دين الله فعلم وعلّم غيره.
(22) واضح وبيّن لطالب الهداية والسير على الطريق، من باب الحلال بيّن والحرام بيّن – الحديث .. كما يفيد أن الشيخ رضي الله عنهكان سائراً على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها وقد تبدد ظلامها بنور قلبه. وكلمة واضح أيضاً تعني أن إرشاد الشيخ ونصحه بيّن الحق وصريح المنطق مما يفحم الخصم.
(23) بهياً تعني جميل وحسن ومفادها أن نصحه وإرشاده طيب مقبول بسبب حلاوة وحسن الموعظة.
(24) دامس شديد الظلمة والظلام هنا يعني الفتنة والزيغ والتباس الحق بالباطل وفي الحديث: ستكون فتن كقطع الليل المظلم.
(25) كم للتكثير مما يفيد أن هذه الكرامة متكررة وما نراه خرق عادة فهو للشيخ عادة.
(26) أبرأت شفت وعافت، وهي أقوى في معناها من شفت لأن فيها البراءة التي هي قطع الصلة بين المرء والمرض وكأنه لم يكن مريضاً، أي يزيل المرض ويزيل آثاره.
(27) يقول سادتنا المشايخ إن البركة في الكفوف وليست في الحروف وهم يقصدون إن استخدام الآيات للشفاء تعتمد على صلاح الطبيب الديني إذ لا يخرج الشفاء عن كونه دعاء مستجاب تصحبه لمسة يد مباركة. وللجسد واليد بركة تلتمس كما جاء في حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه حين طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يكشف له جسده ليقتص منه فكشف له الرسول صلى الله عليه وسلمفاحتضنه أسيد ثم جعل يقبل كشح رسول الله صلى الله عليه وسلمالتماساً لبركة جسده عليه الصلاة والسلاموبركات أيدي الصالحين مشهورة من ضمن كرمات الأولياء.
(28) العلة هي السقم والمرض.
(29) الرمس هو تراب القبر والرامس هنا يقصد بها الميت المقبور. والمعنى أن لمسات الشيخ تحي العظام الميتة .. وإحياء الميت معجزة تمت للرسول صلى الله عليه وسلمومن بعده جاءت ككرامة على أيدي العديد من الأولياء .. وهذه الكرامة يذكرها الشاعر مع التنبيه إلى (إذن الله) وهذا على سبيل تبرأُ الشيخ من حوله وقوته. وقد جاء في القرءان (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله – آل عمران 49) وما كان منسوباً إلى حول الله وقوته فلا إنكار في حدوثه .. وفي هذه الكرامة إشارة إلى أن الشيخ قد بلغ مرتبة (كنت سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها .. الحديث القدسي) ولهذا كانت لمسات يده تشفي المريض وتحيي الميت .
بالورد(30) والإحسان(31) اتحف(32) عمره طـول الليالي متهجداً(33) بـل جالس(34)
بـي نـظـرة(35) يـهدي القلـوب إلـى التـقى كـما أحـيا قـلباً مـن ضلال طـامـس(36)
عـمـر بـيـوت(37) الله شـيد(38) سمكـها(39) ليه الخلاوي(40) تفـتقد(41) ومدارس(42)
حـركاتـه سكناته فـي خـدمـة(43) الطـلاب والـعـشـام(44) نـعـم(45) خـصـائـص(46)
(30) الورد هو الذكر وتطلق في الغالب على التسبيح، سمي ورداً لأن صاحبه يرد به إلى حياض المعرفة أو لأن الورد يهب الذاكر واردات المعرفة اللدنية.
(31) بلغ الشيخ بذكره ونوافله مقام الإحسان وهو مقام المشاهدة كما عرفه الحديث الشريف: (أن تعبد الله كأنك تراه).
(32) أتحف أي جمل وزين من باب (خذوا زينتكم عند كل مسجد – الأعراف 31) فالشيخ قد جمل عمره بالباقيات الصالحات وليس بالمال والبنين.
(33) متهجداً أي قائماً للصلاة والتنفل وبذلك دخل الشيخ في قوله تعالى (وطائفة من الذين معك – المزمل20).
(34) جالس للذكر والتسبيح وتلاوة القرءان. وفي الحديث: (أنا جليس من ذكرني) وفي حديث آخر: (هم الجلساء لا يشقى جليسهم) قيل للإمام الجنيد رضي الله عنهمن أين استفدت العلم؟ فقال: من جلوسي بين يدي الله تعالى ثلاثين سنة .. نقول من تحصل علم الرواية وجالس به الحق عز وجل أتاه الله علم الدراية. وفي الجلوس عبادة التفكر. وكلمتا (متهجد) و (جالس) تفيدان أن الشيخ رضي الله عنهكان من الذين (يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم – آل عمران 199).
(35) بعد أن أجهد الشيخ قالبه في طاعة الله بعمل الجوارح تنزل على قلبه عمل القلوب، فكان يهدي المريد بنظرة الهمة والنية، إذ يخلق الله من همة الشيخ هداية تلج قلب المريد .. وما الهمة التي تتبع النظرة إلا دعاء خفي مستجاب. فإن كان قمة همة شر في عين العائن، فثمة خير في عين الرجل الخيِّر.
(36) الطمس هو تغيير الحقيقة. قال تعالى (ربنا اطمس على أموالهم – يونس 88) أي غيرها. وفي الكلمة توكيد للضلال وتصنيف له بأنه ضلال المغضوب عليهم الذين يطمسون ويغيرون الحقائق من عند أنفسهم من أمثال السفسطائيين الذين تشابهت قلوبهم مع المغضوب عليهم.
(37) لله بيوت ولله أهل. فبيوت الله هي المساجد وأهل الله هم أهل القرءان كما جاء في الحديث وتعمير بيوت الله يعني إعمارها وإحياؤها بالصلاة والذكر فيها كما يعني بناؤها وتاسيسها. وخلاوي القرءان والمساجد التي شيدها الشيخ على امتداد القطر تشهد له بالإعمار وتدخله في قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر …. – التوبة 18).
(38) شيد أي بنى وأسس.
(39) سمك البيت هو سقفه، والمعنى رفع قواعدها وبناها.
(40) الخلاوي هي دور تحفيظ القرءان التي أسسها مشايخ الصوفية في السودان.
(41) إن الكفار أعمالهم كسراب ولذلك بعد موتهم تقول الآية (فما بكت عليهم السماء ووالأرض – الدخان 29) بخلاف المؤمنين يبكي عليهم بموتهم مصلاهم من الأرض ومصعد عملهم من السماء وهذا معنى افتقاد المساجد والخلاوي للشيخ فالفقد معنوي، لأن التعمير المادي للمساجد والخلاوي ما زال متواصلا على يد ابن الشيخ وخليفته الشيخ أحمد (أمد الله في عمره).
(42) للشيخ اسهامات لا تحصى في بناء المساجد والخلاوي والمدارس، بل ومنازل المواطنين.
(43) هذه الخدمات يشهد له بها أقرانه الطلاب وهم زملاء له بالمعهد (أخبرني أحد هؤلاء الطلاب الذين زاملوا الشيخ بالمعهد)، كما يشهد بها تلاميذه ومريدوه على امتداد القطر بل في العالم الغربي والعربي والإفريقي.
(44) هم العشامى أي المحتاجين الذين يصحب طلبهم أمل ورجاء.
(45) أنعم بها .. كلمة استحسان تعني ما أنعمها وما أجلها وأطيبها.
(46) خصائص بمعنى خلال وصفات حميدة اختص بها الشيخ وانفرد.
مـتـقـشـفــاً(47) متعـفـفـــاً مـتســـــتراً(48) طـاوي الحشـا(49) في الله دهــراً ماكـث(50)
زارع ثمـار(51) الحــب(52) فـي اولاده(53) نِعْـمَ الثمــار المـقـتطـــف(54) والغـارس(55)
في الخـلق(56) والإحسـان(57) فـاق الأوليا مـتـبحـــراً فـي العـلـــم بــل مـتحـــــدث(58)
في المـدح(59) والتهـلـيل دومـاً هـائمـا(60) والــذكـــــر والأوراد تـلـك مــجـــالـس(61)
ويطــوف عـلى بيت المـهـيـمـن دأبـه(62) أيـضــاً يـزور المـصـطـفــى والمـقـدس(63)
(47) المتقشف هو الذي يتبلغ بما يقيم الأود وبالمرقع من الثياب وخشن العيش.
(48) أي متخفياً يكتم أحواله ومنازلاته. فالشيخ دفع الله رضي الله عنهللناظر البعيد يبدو أبيض الثوب نظيف الجلباب وجديده، لكنه في حقيقته يرتدي جلباباً مرقعاً من الداخل وكأن تقشفه حالة بل مقام بينه وبين ربه .. والشيخ من عميق تستره أنه ما عرف عنه الشطح والتحدث بلسان الشطح إلا في التحدث عن مقام أهله وشيوخه العركيين.
(49) مثلما طوى سره عن الناس بصدق عهده الوثيق مع المولى عز وجل فقد طوى بطنه من الجوع وهو أحد أركان الطريق الصوفي.
(50) مستقر على هذا المقام دهراً وأمداً طويلاً فلم يفتر عزمه عن الجهاد الأكبر فإنه من تمام معرفة الشيخ وعلمه دوام عبوديته لله. ومن كرامات هذا المقام أن العابد يبذل الجهد (الطاقة) ولا يشعر بأي جهد (مشقة). وهذا مقام الإستقامة التي هي خير من ألف كرامة.
(51) قال الشاعر (ثمار) ولم يقل (بذور) وذلك لأنه زرع مؤكد الإنتاج والإثمار، أي إعتباراً لما سيكون بالتحقيق.
(52) الحب هو أهم حلية للمريد. والحب هو الخصلة التي بسببها جعل الله عباداً هم خير ممن سواهم. بل هم بديل لسواهم ولا بديل لهم هم .. (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه … – المائدة 54).
(53) أبناء الجسد (الذرية)، وأبناء الروح (التلاميذ).
(54) الذي تم جنيه، وفي هذا شهادة من الشاعر بصلاح الأبناء والتلاميذ وهم من ثمار الشيخ ونتاج غرسه.
(55) الغارس هو الشيخ أو هو التلميذ الذي أصبح شيخاً وغرس تلميذاً آخر وبذلك يتواصل عطاء الشيخ حفيداً بعد حفيد وجيلاً بعد جيل.
(56) جاء في تعريف التصوف أنه خلق، فمن زاد في الخلق زاد في التصوف. والحديث (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي حديث آخر (أقربكم مني مجلساً محاسنكم أخلاقاً) فالخلق هو باب الدين ومن دخل بالباب اتسعت له الرحاب وفاق كل الصحاب.
(57) الإحسان هنا تعني عطاء المحسنين.
(58) مثلما أنه بحر في التحدث بعلوم القوم فالشيخ ذو باع طويل في علم الحديث، فما قال الشيخ وصية لمريد ولو باللغة العامية إلا وكانت مقتطفة ومقتبسة من حديث شريف.
(59) يقصد بالمدح هنا مديح الشعراء للرسول صلى الله عليه وسلموقصائدهم في سيرة القوم.
(60) الهيام هو دوام الإنشغال بالمحبوب وهو من ثمار المشاهدة، فمن أتى بمجاهدة الذكر أوتي مشاهدة الفكر، والهيام يعني أيضاً العطش. من شاهد الجمال الأوحد شرب من كأس الحب ولم يرتو وبقدر استغراقه في المشاهدة يرتفع طلبه لزيادة الشرب كما قال الشاعر:
سقاني الحب كاساً بعد كاس فما نفد الشراب وما رويت
(61) مجالس الذكر هي رياض الجنة التي ذكرت في الحديث الشريف.. وهي منتدى الجليس الصالح الذي إما أنْ تبتاع منه القدوة والتأسي أو تجد منه رائحة الدعاء الصالح لك.
(62) دأبه أي عادته المستمرة وشأنه المتواصل.
(63) إن للشيخ حركات وسكنات تخفى على كثير من أهل قربه وخدمته. وهذه الزيارة لبيت المقدس حقيقة وهي إحدى كراماته إلّا أن معناها من فهوم الأذواق التي لا تقرأ من الأوراق إنما تدرك بصحبة أهل الأذواق الذين يصدقون بمعراج المصطفى صلى الله عليه وسلمفي السبع الطباق.
فــيه التـصـــوف معــدناً(64) وحـقـيـقـــة(65) فاق السلف(66) في الزهد(67) ثم(68) الحادث(69)
يـهـــدي إلـى كــل المـكـــارم(70) قـولــه(71) مـتـفـقــــداً(72) للـنـاس(73) بـل مـتـحـســس(74)
علما(75) رفيعـاً(76) في العـوالي سـامـــياً(77) أيـن(78) الـشــــبـيـه لــــه وأيـن مــنـافـــس(79)
(64) معدن الشيء موطنه.
(65) فيه التصوف موطناً ومواطناً، أي قالباً وقلباً، أي أن ظاهر الشيخ وباطنه كليهما تصوف.
(66) السلف هم الأجداد، إن الشيخ قد فاق الأجداد الأبرار لأنه من المقربين الذين قيل فيهم (وقليل من الآخرين – الواقعة 14).
(67) أخذ الشاعر عمق التصوف ولبابه وهو الزهد لأن به ترك كل ما سوى الله .. قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهالزهد على ثلاثة أوجه: الأول ترك الحرام وهو زهد العوام والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث ترك ما يشغل العبد عن الله وهو زهد العارفين. وما فاق الشيخ السلف إلا بزهد العارفين الذين لم يطفئ نور معرفتهم نور ورعهم وزهدهم، إذ ظل الشيخ زاهداً حتى نهاية عمره فلم تبسطه المعرفة لأن الشيخ كان راسخاً في مقام الإحسان الذي جعله صادقاً في ترك ما لا يعنيه وهي الدنيا التي قال تعالى فيها (قل متاع الدنيا قليل والآخرة لمن اتقى – النساء 77).
(68) ثم تفيد التراخي وبعد الفجوة الزمنية وتوحي بفجوة الدرجة بينه وبين أقرانه المعاصرين له.
(69) الحادث تقابل (السلف) ويقصد بها حديث العمر والمعاصر لزمن الشيخ من أترابه.
(70) الصفات والأفعال الكريمة .. أي أفعال التقوى التي بها يكرم المرء (إن اكرمكم عند الله أتقاكم – الحجرات 13).
(71) نطقه حكمه وإرشاده للتي هي أقوم .. والشيخ في أقواله يتمثل الآية (لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك إبتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً – النساء 14) وآية (وقولوا للناس قولاً حسنا – البقرة 83) وحديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
(72) متلمساً لمواطن آلامهم بصريح السؤال المباشر عنها تتطيباً للخاطر ولتقديم الحل العلني وصدقة العلن التي يفعلها الشيخ تعليماً لتلاميذه للإقتداء به في التراحم والتكافل والترابط الأخوي.
(73) كل الناس، لا فرق في ذلك بين المريد وسواه، لأن الشيخ أعماله لله خالصة لا تشوف فيها ولا رياء. وقد علمنا قيادة الشيخ لمريديه لدرء خطر الفيضان من أهالي جزيرة توتي بالخرطوم في فيضان عام 1988م.
(74) متلمساً لمواطن آلامهم بالسؤال غير المباشر (تورية أو كناية) لكيلا يجرح مشاعر المعوذين ولكي يقدم الحل الخفي بصدقة السر التي يفعلها الشيخ لنفي الرياء وللإحتفاظ بعلاقة الخصوصية بينه وبين ربه.
(75) أي جبلاً رأسياً فالشيخ من أوتاد الأرض الذين ترسى بهم قواعد الحق ويرحم بهم الخلق.
(76) أي مرفوع المنزلة يعرفه القاصي والداني.
(77) أي عالياً والكلمة ذات صلة بمعنى (السماء) وتوحي بأن إرتفاع الشيخ وزيادته ربانية عرفانية وليست أفقية ذات بسط وسعة في الأرض وبهرج الدنيا، بل هي سمو وإرتقاء روحي.
(78) سؤال إنكاري بمعنى لم نجد للشيخ مثيل ولا مقارن، فمن صح توحيده لله صح تفرده بين أقرانه، وكما تدين تدان، وكما تعطي تعطى.
(79) من باب (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون – المطففين 26) فللشيخ مبادرات إلى فعل الطاعات يتفوق فيها على أقرانه فهو ممن وصفتهم الآية (وقليل ما هم – ص 24).
تـالله(80) لـــم نـعـــثر(81) عـلـى شـــبه لــه هـــو ســيد العـــباد(82) وهـــو مـــؤســـس(83)
ابـن الوقـــــيـع(84) شــهــيـراً اســمـــه(85) فـــــي الأولــــيـاء مـعـــظـــم ومــقـــــدس(86)
ابـشــر محــبه لا تخـف مـن هـاجـس(87) فالشيخ ملاذك(88) في الوطيد(89) لك غايث(90)
اســـكـنه يــا مـــولاي(91) جــنـات العــلا فـــي مـقـعـد(92) الأبـرار اجــعــل مـجـلـسـه
(80) قسم لتوكيد عدم الشبيه.
(81) هذا من كمال رؤية المريد لشيخه، فمن اعتقد في شيخه النقصان لم تثمر له أفنان.
(82) العبودية هي شهود الربوبية ودوام مراقبة جلال المولى فالربوبية – كما قال أبو علي الدقاق – نعت للحق سبحانه لا يزول، والعبودية صفة للعبد لا تفارقه ما دام، ونقول بقدر الطاعة والإسترقاق للمولى عز وجل بقدر ما يكون تكريم تكريم الله لعبده بخلع السيادة على أقرانه العباد.
(83) وهو مؤسس ومشيد لصرح باسق في علم التصوف وفي علم السلوك الصوفي. ففي زماننا الذي أولع الناس فيه بالمنكرات والبدع نجد الشيخ يرسي قواعد التصوف السني الذي ينبني على تصفية النية مع الإتيان بالإعمال السنية.
(84) اسم والد الشيخ وهو الفكي وقيع الله.
(85) للشيخ دفع الله رضي الله عنهأسماء أخرى ألقاب وكنى مشهورة منها: الصايم ديمه، حوى الرسول، الأبيض، الملثم، أبو هيبات، أبو توب وأخيراً أبو أحمد. وكثرة الأسماء تدل على عظمة المسمى لأنها تثبت للمسمى صفات ورموز كثيرة بعدد الأسماء والألقاب والكني.
(86) مقدس تعني محترم كما تحترم الأرض المقدسة أي المطهرة. إن أقران الشيخ من الأولياء هم أكثر الناس معرفة بالشيخ وتعظيماً له لما أطلعهم الله على خصوصية الشيخ. أما بعض العامة فقد حجبتهم سحب مثلية الشيخ (إنما أنا بشر مثلكم – الكهف 110) عن شمس حقيقته المتمثلة في (وأتاني رحمة من عنده فعميت عليكم – هود 28). وقد قيل لا بد للشمس من سحاب، وللحسناء من نقاب.
(87) الهاجس هو الخاطر الذي يتلجلج في الصدر، أي لا تدع الخوف يمر على بالك ولو خطرة. هذا يفيد أن وظيفة الشيخ درء المخاطر الباطنية عن قلب المريد بالإضافة إلى خلاصه من مزالق الشريعة الظاهرة .
(88) الملاذ هو الملجأ والمأوى.
(89) الوطيد هو الأمر الثقيل العسير الذي توطدت أقدام حدوثه وثبتت، مما يفيد أن الشيخ خبير في استئصال الداء ولو كان مزمنا متمكناً من المريض أو المصاب بالمحنة.
(90) مغيث وناصر ومنقذ. فالشيخ منقذ من الزلل بالنصح والإرشاد، ومنقذ ببركاته حياً وميتاً إذ هو ممن يتوسل به ويقال فيه (يا عباد الله احبسو – الحديث ) وتقديم الضمير (لك) على كلمة (غايث) تفيد تخصيص العون والإغاثة للمستغيث وتحديد الهدف قبل إنطلاق الإغاثة مما يجعل الغوث مؤكد الإصابة لهدفه وهذا مقاس قوله تعالى (نحن نرزقهم وإياكم – الإسراء 31) وقوله تعالى (نحن نرزقكم وإياهم – الأنعام 151) فالرزق موجه لطالبه وقت الحاجة إليه بتقديم الضمير (هم) أو (كم).
(91) المولى هو المعتق والجار والناصر. وخطاب من ينادي معتق الرقاب من النار (ومن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز – آل عمران 185) ولهذا طلب الشاعر جنات العلا على وجه التفضيل لجنة بعينها إذ علم أن مولاه يدخل الشيخ الجنة باسمه المعتق من النار.
(92) من باب الآية (في مقعد صدق عند مليك مقتدر – القمر 55).
أحـمـد كـسـولاً فـي الضلالة تائهــا الهـته(93) نـفــســـــه بـالـهـــــــوى ودســــائـس(94)
مــتـهــاونــا مــتـخــامــــلاً فــــي ذكــــره(95) أمِّــنْ فــؤاده لا يـضــل ولا يـوجــس(96)
ثـم الصـلاة عــلـى الهــــادي وســــيـلـتـنـا(97) والآل والأصــحـــاب مــلاذ الـبـائـس(98)
مـا قـال ذو عـشـق(99) يعـطـر مـجـلـســاً(100) (غـاب البهـاء المـســتـنـيـر الفـارس)(101)
(93) من اللهو أي شغلته عما يفيد.
(94) الدسائس هي خفايا مكر النفس وأحابيلها الشريرة. الكسل والضلال والهوى كل هذه الأوصاف التي أطلقها الشاعر على نفسه إنما هي من قبيل إتهام شيخنا الشاعر لنفسه وعدم الركون إليها، وهكذا فنفس الصوفي منه في عناء والناس منه في راحة، ومن علامة إقبال الله على عبده أنْ يشغله بإصلاح عيوب نفسه. وأتم السير إلى الله يكون بالنفس اللوامة فمن فارقه لومه نفسه فقد فارقته الهداية.
(95) العبارة المعتادة أن يقال ذكر الله بإضافة كلمة (ذكر) لاسم الجلالة (الله) ولكن (ذكره) هنا تعني ذكر الشاعر لله. أضاف (الذكر) إليه لأنه ذكر فيه تهاون وتقصير. وهذا من باب (وما أصابك من سيئة فلنفسك – النساء 79).
(96) لا يوجس أي لا يضمر في نفسه خيفة من مخلوق. طلب الشاعر من مولاه عز وجل أن يجعله من الذين (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون – يونس 62).
(97) لما كانت القصيدة عن الشيخ دفع الله رضي الله عنهوهو وسيلتنا إلى المعرفة والهداية فقد جعل الشاعر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلمباسمه الوسيلة الكبرى للهداية التي استقى منها الشيخ نهج إرشاده لمريديه.
(98) البائس هو ذو الحاجة الشديدة. التوسل بالآل والأصحاب والصالحين لفك البؤس والمحنة جائز شرعاً بنص حديث الإستسقاء وتوسل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهبسيدنا العباس رضي الله عنه.
(99) العشق هو الميل الشديد للمحبوب. ولما كان الشيخ دفع الله الصايم ديمه رضي الله عنهمن المحبين الهائمين في الذات الإلهية فلن يعرف بهاؤه واستنارته إلا ذو عشق مثله فالعشاق يتعارفون بينهم بسيماهم التي في وجوههم من أثر بهاء واستنارة العشق الإلهي.
(100) في التعبير (يعطر مجلساً) إشارة لحديث الجليس الصالح الذي إن لم تبتع منه تجد منه رائحة طيبة والعاشق يعطر المجلس بالتغني بسجايا الشيخ.
(101) في تكرار مطلع القصيدة (غاب البهاء المستنير الفارس) إلماحة إلى عودة الغائب وتكرر مجيئه كما مر بنا في شرحها آنفاً.
والملاحظ للقصيدة يجد وتيرة للتكرار نذكر منها: الإحسان، زهادة والزهد، عفافاً ومتعففاً، وهذا التكرار عند أهل الفكر اللغوي يفيد تدوير الفكرة عوداً على بدء وتأكيدها بالتكرار اللفظي، لكنه عند الطائفة يوحي بالترقي المستمر للشيخ. فمثلاً نجد الشيخ مارس الزهد في كل درجاته وكلما رأيت الشيخ علمت فيه نوعا من الزهد والاحسان والعفة أكثر وأعلى من سابقتها، فكلمة (بل) التي تفيد التحول من معنى لمعنى آخر وردت في القصيدة خمس مرات وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن رؤية الشاعر للشيخ متجددة، فكل تأمل يمنح الشاعر رؤية أخرى ويحوله لمعنى أعمق لصفات الشيخ فالزهد الأول في الأشياء وهذه صفة المجاهدة والسلوك، والزهد الثاني في عدم رؤية الزهد نفسه وهذه صفة البقاء بعد الفناء. فمبدأ الطريق كمنتهاه مع الفارق في التوجه الروحي فالبادئ مشغول بالتخلص عن الأشياء الظاهرة عليه في سلوكه، والمنتهي مشغولة به الأشياء (منها المريدون) الظاهر هو فوقها ترفعاً عنها وعلواً فالبادئ يبقى بالأشياء مع الله والمنتهي بعد فنائه بالزهد الأول يبقى بالله مع الأشياء وقس على ذلك كل صفات الشيخ المتكررة في القصيدة. فهي ترقي لزهدا أرفع وإحسان أكمل وعفة أتم مما قبلها. والسير لله لا غاية له لأنه سير نحو المنطلق، إلّا أننا نقصد بكلمة (المنتهي) و (الواصل) عند الصوفية معنى من أوصلته معرفته إلى أن (العجز عن درك الإدراك إدراك) كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
تمت مع شرحها.