بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الهدى النبوى الاقتصادى

عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: “أما في بيتك شئ ؟” قال: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء. قال: “ائتني بهما”، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: “من يشتري هذين ؟” قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يزيد على درهم”، 

مرتين، أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري، وقال: “اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً (القدوم هى ألة ذات رأس مسنن وهي من صنف الفأس ينجر بها الحطب) فأتني به”، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال له: “اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً”، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “هذا خير لك أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي فقر مُدْقِع، أو لذي غُرم مُفظع، أو لذي دم موجع”.

   (أخرجه الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، 3 كتاب الزكاة، 26 باب ما تجوز فيه المسألة، ص 257، الحديث رقم 1641، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ / 1998م. كما أخرجه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجة، سنن ابن ماجة، 12 كتاب التجارات، 25 باب بيع المزايدة، ج 2، ص 740، الحديث رقم 2198، دار الكتب العلمية، بيروت).

      إن في هذا الحديث النبوي الشريف أعلاه دروساً اقتصادية عميقة المعاني، نقتطف منها ما يلي:

1- مسؤولية الدولة (states responsibility):

      على الحاكم بعض من الالتزام بمسؤولية توفير سبل العيش للرعية، فالحاكم هو الملجأ الذي يلجأ إليه المحتاج بحكم رعايته لمال المسلمين، حيث ترد عليه زكاة الأموال والصدقات فيقوم بتوزيعها على الفقراء والمساكين، وغيرهم من مصارف الزكاة. فمن مهام خليفة المسلمين تقدير العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. بل للحاكم – ما استطاع إلى ذلك سبيلاً – أن يباشر بنفسه الإشراف على أمور الرعية وتصفح أحوالهم، وذلك بموجب رعايته للأمة، “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.

     2- عدم الارتكاز المطلق على (الضمان الاجتماعي social guarantee):

      حدد الإسلام مبدأ الضمان الاجتماعي للفرد الذي يعجز عن العمل وكسب عيشه، وتمثل هذا الضمان في إعطاء الفقير من مال الزكاة. فالزكاة تجب على الفقير والمسكين.  إن الإسلام قد حرم القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي. ولذلك ففي هذه الحالة التى وردت في الحديث لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيب للأعرابي وينفق عليه من مال الزكاة، بل دله على ما يعف به نفسه من المسألة، لأنه يمكن لهذا السائل توفير (عوامل الانتاج  factors of production) الأربعة، وهي: (رأس المال capital) و(الحقل العملى land) و(المقدرة على العمل  labour) و(الإدارة entrepreneur). فرأس المال قد وفر ببيع بعض الأصول من منزل الأعرابي (الحلس والقعب) وتمليكه (وسيلة الانتاج  means of production) وهي الفأس، بينما حقل العمل فيكمن في الغابة وما بها من أشجار يعمل عليها المحتطب، والغابة هنا هي من الموارد العامة التي تملكها الدولة ويمنح الحاكم التصريح لمن يستفيد منها. أما المقدرة على العمل هو ما يملكه الأعرابي من طاقة الاحتطاب والبيع والشراء. بقي من وسائل الإنتاج الإدارة، وتلك قد وفرها له النبى صلى الله عليه وسلم عندما قام بعرض مبيعات الأعرابي ونصحه بالعمل في الغابة، وطلب معاودته للمتابعة الإدارية.

     3- استخدام الأصول المتاحة فى موازنة بين (الاستثمار investment) و(الاستهلاك  consumption):

      لقد حول الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأصول في منزل الأعرابي (الحلس والقعب) إلى شقين: شق لرأس المال الاستثماري والإنتاجي، وهو المبلغ الذي اشترى به الفأس (آلة الإنتاج)؛ والشق الآخر ذهب إلى الاستهلاك بشراء الطعام لأهل الأعرابي. فلا الاستثمار الآجل هضم حقوق الجيل الحالي المستهلك، ولا الإستهلاك الآني أضاع فرص الإستثمار للجيل القادم. وهذه موازنة اقتصادية جاد بها الهدي النبوي الشريف.

      4- استخدم النبي صلى الله عليه وسلم (بيع المزايدة  sales by auction):

      استخدم النبي صلى الله عليه وسلم بيع المزايدة، وقد فطن لذلك أبو داود فسمى الباب الذي ذكر فيه هذا الحديث (باب بيع المزايدة). وهذا النوع من البيع فيه رضا كل من البائع والمشتري. فلم يتبع فيه النبي صلى الله عليه وسلم طمع البائع برفع السعر، كما لم يركن إلى بخل المشتري واستغلاله حاجة البائع ببخس الثمن، بل طلب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أعلى من درهم ولم يزد على ذلك. وفي هذا الطلب غاية القناعة، فالبائع قد حصل على ما يشتري به القوت وما يمتلك به وسيلة الإنتاج، وهذه غاية القناعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إياها.

      لم يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم بيع (المقايضة barter)، لأنه لم يرد للأعرابي هنا أن يأخذ طعاماً وكساءً فقط باستبدال ما لديه من حلس وقعب. بل أراد له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكسب مالاً يشتري به حاجاته الاستهلاكية (الطعام) ووسيلة الإنتاج (القدوم).

      5- التغذية الراجعة feedback و المتابعة follow up:

      ولمتابعة العمل التجاري والإنتاج فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم عودة الأعرابي إليه بعد خمسة عشر يوماً، وهي مدة كافية يظهر فيها انتاج الأعرابي. وبهذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نفذ مسألة التغذية الراجعة والمتابعة والمراجعة للعمل الاقتصادي الذي قام به الأعرابي، وذلك للوقوف على مدى نجاح البرنامج العملي الاقتصادي الذي رسمه له النبي صلى الله عليه وسلم. أما مدة الخمسة عشر يوماً فتنم عن جدولة العمل في تاريخ يلتزم به المنتج في تنفيذ مشروعه الانتاجي، وهذا يشبه ما تحدده الدول من خطة خمسية أو عشرية لبرمجة أعمالها التنموية.

      6- زيادة (الدخل الفردي والقومي personal and national income)

        وتحقيق (التنمية الاقتصادية economic development):

      استطاع الأعرابي أن يجلب دخلاً وفيراً من عمله في بيع الحطب، وتحصل على دخله الشخصي بحر عمله، وتمكن بذلك من توفير الغذاء والكساء لأهله. كما ساهم في الانتاج القومي. فدفع الأعرابي بذلك عجلة الدخل القومي للأمام، وساهم في التنمية الاقتصادية. 

      أما بعد

      فها نحن نرى أن النهج الاقتصادي الذي رسمه هذا الحديث النبوي الشريف قد جاء في غاية العلمية والسداد ونجاعة الحل، وسبق المذاهب الاقتصادية الحديثة التي تفتأ تصارع مشكلة البطالة وتدهور الدخل الفردي والقومي.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 كتبه / عبد الرحمن ود الكبيدة
 يتبع …
Scroll to Top