بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المعراج والعلم الرباني

المعراج والعلم الرباني

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي وهو على الأرض. ثم جاء الفيض الإلهى بمنحه بعثة دراسية لتلقى العلم من مركزه الأصلي ومقامه الأعلى، أى إن المعراج قد شكل فتحاً علمياً للرسول صلى الله عليه وسلم.

إن المسألة المعرفية وتزويد النبي صلى الله عليه وسلم بالمعارف الدينية لهي حجر الزاوية في حادثة الإسراء والمعراج. وجاءت مصداقية علمه صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى “إنه هو السميع البصير”، ففي هذ الجزء من الآية الكريمة تكمن الإشارة إلى أن هذه المعجزة التي سمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأبصر فيها ورأى من آيات ربه الكبرى إنما هي من تجليات الحق عز وجل، وخِلَع السميع البصير على نبيه صلى الله عليه وسلم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وأبصر بقدرة السميع البصير. وفي قوله تعالى: “السميع البصير” إشارة إلى أن الإسراء والمعراج حادثتان تحتاجان إلى نوع سمع وبصر متميزين يعطاهما صلى الله عليه وسلم لكي يدرك إدراكات خاصة. هما سمع وبصر يصدران من فتح رباني يتمثل في قوله تعالى: “كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به” حتى يتسنى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويبصر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من مشاهد القيامة والجنة والنار؛ وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المشاهد ما صور تصويراً، له فأخبر عنه بلفظ فصيح.

 ولئن كانت وسيلة العلم تتمثل في سماعه صلى الله عليه وسلم الوحي عن طريق سيدنا جبريل عليه السلام وهو صلى الله عليه وسلم على ظهر الأرض، فقد ترقى في الإسراء والمعراج إلى وسيلة الإبصار ومشاهدة الآيات. وقد مُنِحَ صلى الله عليه وسلم شتى المعارف والمعلومات، ووقف على صنوف مناهج العلم ونظريات المعرفة ووسائل التربية والتعليم، تلك الوسائل التي انتهجها في تبليغ الرسالة وتربية أصحابه. وتمثل هذا العلم ومناهجه في الآتي:

1- التدرج في المعرفة ووسيلة تلقي العلم:

إن معرفة الوحي وما يأتي به تتسم بالغيبيات التي تشكل العمود الفقري لهذا النوع من العرفان. فحتى لا تصطدم الروح البشرية بفجائية هذا العلم فقد تدرج أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراء قبل المعراج. فقد انضوى المعراج على علم غيبي على نحو ما، أشبه بذلك العلم الذي تلقاه في المعراج. فالإسراء حادثة أرضية، تمت في بيت المقدس في فلسطين، وفيها التقى النبي صلى الله عليه وسلم بأرواح بعض الأنبياء في بيت المقدس وصلى بهم والنبي صلى الله عليه وسلم لما يزل على الأرض. فبهذا العلم الغيبي تأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معراجه. أما في المعراج فقد انهالت عليه صلى الله عليه وسلم المعاراف والعلوم اللدنية التي لا تحصى، وبطرق غاية في براعة الأسلوب التربوي والتعليمي.

2- الطريقة الكلية

وفي هذه الطريقة تُعْطَى القطعة التعليمية كلها دفعة واحدة، ثم يأتي تفصيلها وبيانها فيما بعد. والمعرفة في المعراج إنما هي معرفة وقائع معلومة النتائج بعلم الله تعالى الأزلي. وقد علِّم الرسول صلى الله عليه وسلم فى المعراج على نهج الطريقة الكلية، أى أعْطِي  كل العلم دفعة واحدة، ورأى جملة المشاهد على نمط “وعلم آدم الأسماء كلها” ـ البقرة 31، ثم بعد ذلك تم تفصيل هذه المعارف له بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم للأرض،  فبَّلغها النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي منجمة، حالة إثر حالة، وواقعة بعد واقعة – رأى أجر المجاهدين ولم يكن ثمة جهاد مفروض وقتئذٍ، ثم كان الجهاد والإذن بالقتال بعد الهجرة التي جاءت بعد الإسراء. 

3- التجسيد أو التشخيص:

وهو إضفاء الصفات البشرية وتمثلها في أشكال أو أشخاص. أي تحويل الصفة المعنوية إلى صورة حسية. فمثلاً صفة قطع الطريق ورصد السبيل بالفساد تمثل في صورة خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب ولا شئ إلّا خرقته. كما شبهت الكلمة العظيمة تخرج من المسلم ثم يندم عليها ولا يستطيع أن يردها، شبهت بالثور العظيم خرج من جحر صغير ويريد الرجوع إليه فلا يستطيع. فالجحر الصغير هو الفم الذي يحوي اللسان الناطق بالكلمة، أما الكلمة فهي حروف محدودة ولكنها تأخذ معنىً كبيراً في حجم الثور الضخم. كما نجد تمثيل الدنيا برمتها بامرأة عجوز، فالمرأة، وإن كات هي محط الجمال والزينة والرفاهية والملذات، فهي هنا عجوز شمطاء، لا يأتي منها خير لطالبها. أما تمثيل الموت بكبش يذبح يوم القيامة، ففيه إشارة الفداء لأرواح أهل الجنة، والذبح هو طريقة في الموت تراها العيون وتطمئن لموت المكروه، وهو – هنا – الموت.

 4- التجريد:

 التجريد هو عملية عكسية بالنسبة للتجسيد. فهو تحويل الصورة المادية الملموسة إلى فكرة معنوية. فمثلاً شرب اللبن وهو صورة حسية قصد بها أن تعني الفطرة والهداية والتي هي فكرة معنوية في قلب المهتدي. كما قصد بالنهر الذي ينغمس فيه بعض القوم أن يعني رحمة الله عز وجل. ومن وحي هذا العلم جاء الحديث النبوي الشريف: “أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شئ ؟” قالوا: لا. قال: “كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا”.

   5- علم التجريب:

وهذا هو علم الخبرة والتعلم من واقع التجربة العملية والحادثة المشاهدة. ومثال ذلك حادثة العفريت من الجن الذي انطلق بشعلة من نار يريد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلمه جبريل عليه السلام دعاءً، لما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم، إنكب العفريت على فيه وانطفأت شعلته في الحال.

6- شمولية المعرفة:

ونقصد به الإحاطة البشرية بالعلم بقدر الوسع البشري. أُعْطِي النبي صلى الله عليه وسلم علم ما لم يحدث حتى الآن متمثلاً في دخوله صلى الله عليه وسلم الجنة وعلمه بما فيها من ثمار وأنهار وحور عين، وما سيكون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فهو علم لا تحده الأزمنة إذ وجد النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا بلالاً رضي الله عنه في الجنة، وبلال ساعتها كان على الأرض في مكة.     

7- خصوصية المعرفة:

ونعني بهذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أسَرَّ إليه ربه عز وجل بعلم تقاصر دونه سيدنا جبريل عليه السلام، إذ تأخر هو وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ففرض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فريضة الصلاة، وأعطاه خصوصية العلاقة والمناجاة في ذلك المقام، ووهبه أسراراً اختصه بها دون سائر البشر؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً”.

وأخيراً نقول: تلك هي بعض الفوائد العرفانية التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، إنها معارف تجل عن الحصر والإحاطة بذكرها، ولكننا أوردنا طرفاً منها يشير إلى عظمة ما وهب للنبي صلى الله عليه وسلم من علم تقاصرت دونه الأكوان.

فعلى نبينا صلوات الله وسلامه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بقلم / عبد الرحمن (ود الكبيدة)
Scroll to Top