بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الفلسفة المادية ومسخ الإنسان : بقلم عبد الرحمن ود الكبيدة
نتناول اليوم في باب الفلسفة والمنطق قضية الانحراف الفكري في بلاد الغرب، وموضوعنا هو الفلسفة المادية.
إن من يستقرئ واقع الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية في دول الغرب يلاحظ أن الفلسفة المادية تشكل البنية الفكرية التحتية أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من فلسفات الغرب الحديثة: الداروينية والماركسية والفرويدية وغيرها. كما أنها تشكل الإطار المعرفي الكامن لرؤية مفكري الغرب للتاريخ والتقدم والعلاقات الدولية.
وكل هذه المدارس الفلسفية تنحو نحو مسخ الإنسان وتجريده من إنسانيته ومن محتواه الروحي، وذلك بسيطرة الفكر المادي على كل نواحي الحياة الإنسانية. ولكي نوضح ما ذهبنا إليه نتناول معنى المادية ونظريات الفكر المادي، ونقول:
أولاً: مفهوم المادية:
إن مفهوم الطبيعة/المادة مفهوم محوري في الخطاب الفلسفي الغربي. فالفلسفة المادية تنكر وجود أي جوهر مستقل عن حركة المادة، ولذلك لا يمكن لأي عنصر، بما في ذلك الإنسان، أن يحقق تجاوزاً للنظام المادي الطبيعي. ولذا لا بد أن تسري القوانين الواحدية المادية في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير على الإنسان سريانها على الطبيعة، فيصبح الإنسان بوعيه وفهمه وحسه الخلقي جزءاً لا يتجزأ من حركة المادة خاضعاً لها. فالفلسفات المادية تبدأ بفكرة أن الإنسان من نتاج وخلق الطبيعة، وهي التي أعطته شكله ومضمونه، فهو يخضع لها. وهذا الزعم يشبه قول الدهريين من الكفار في صدر الدعوة الإسلامية حيث قالوا: “إنما هى أرحام تدفع وأرض تبلع”، وحكى عنهم القرءان قولهم: (وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلّا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنون) الجاثية، 24. واليوم – وقد تشابهت قلوب الكفار والملحدين – نسمع نفس الفكر الدهري الذى يتحور اسمه إلى المادية أو الطبيعة.
ثانياً: أهم النظريات الغربية التي تنادي بمادية الإنسان:
إن فلسفة الغرب لا تنفك عن الرؤية المادية للإنسان، وعلى هذه الرؤية قامت عدة فلسفات ونظريات غربية نوجزها في الآتي:
أ) نظرية النشوء والارتقاء:
أسس هذه النظرية شارلس داروين (1809م– 1882م). فقد أصدر في عام 1859م كتابه “أصل الأنواع “. وفيه تنادى بأن أصل الحياة (كائن وحيد الخلية كالأميبا) تحولت إلى (فطريات متعددة الخلايا كالنبات) ثم إلى (ما يشبه الحيوان كالهيدرا) ثم (حيوان يشبه النبات كالمرجان) ثم (حيوانات لا فقارية) ثم (حيوانات فقارية دنيا كالأسماك والطيور) ثم (حيوانات فقارية أرقى كالثديات الدنيا) ثم (الثديات العليا) ثم (القردة الدنيا) ثم (القردة العليا أو الغوريلا والأورانج أوتانج- إنسان الغاب والشامبنزي والجبيبون) ثم (“الحلقة المفقودة” وهي القرد الشبيه بالإنسان أو الإنسان الشبيه بالقرد العليا) ثم (الإنسان). ففي نظر دارون أن الطبيعة تخلق كل شئ، ولا حد لقدرتها على الخلق، وإنها تخبط خبط عشواء في خلقها.
إنّ نظرية كهذه تعطي عدة إيحاءات خطيرة، منها:
1- إزاحة العقيدة الدينية عن الوجود البشري، تلك العقيدة الصحيحة التي تؤمن بإله واحد خالق وقادر ومريد. خلق هذا الكون بقدرته وإرادته.
2- عدم وجود مقاييس وضوابط للخطأ والصواب البشري طالما أن الطبيعة هي المتصرفة في الإنسان.
3- كما توحي هذه النظرية بالتطور حتى في القيم وعدم ثباتها، وبهذا لا ثبات لمعتقد ديني أو قيمة إنسانية.
ب) الماركسية أو الشيوعية:
أخذ كارل ماركس (1818م– 1883م) لب نظرية داروين القائلة بالتطور وعدم الثبات وأسقطها على مذهبه الشيوعي. فقال بحصر الإنسان في عالم المادة والتطور الإقتصادي. فجعل أمور الحياة كلها من عقائد ومشاعر وأفكار وأنماط سلوكية ومنظمات ومؤسسات تبعاً للتطور الاقتصادي وللأوضاع المادية التى يعيش فيها الإنسان. فقد سلسل نمو المجتمع مادياً على غرار نظرية النشوء والارتقاء، وقال: الشيوعية هي الأصل عندما كان المجتمع ملائكياً وفيها عدم وجود الملكية الفردية فالكل – حتى النساء – مشاع على الإطلاق؛ ثم حصل الطور الزراعي فنشأ الرق الذي يسخِّر العمال في الفلاحة ونشأ نظام الملكية الفردية؛ اكتشف المحراث وتطورت آلة الزراعة فزيدت رقعة المساحة المزروعة فنشأ نظام الإقطاع؛ ثم اخترع الإنسان الآلة فنشأت الرأسمالية ؛ ثم نشأ الصراع بين العمال وأرباب الصناعة فجاءت الشيوعية، وفي كل طور تنشأ مؤسسات وأفكار وعقائد تلائم هذا الطور. غير أن الشيوعية تكون هي المقر الأخير للبشرية.
وبناء على هذا الفكر المادي فقد زعم ماركس أن الدين طور من الأطوار المتخلفة للمعتقدات البشرية. فماركس يقول: “لا إله، والحياة مادة”.
ج) علم النفس والتحليل النفسي:
قام علم النفس على يد طبيب الأمراض العصبية النمساوي سيغمون فرويد (1856م– 1938م). إن مذهبه في علم النفس يخلص إلى أن الطاقة الجنسية هي الطاقة العظمى في الكائن البشري وهي المسيطرة على طاقاته جميعاً والموجهة والمسخرة له في كل نشاطاته. يولد الطفل وتسيطر عليه منذ لحظة مولده الطاقة الجنسية فيرضع ثدي أمه بلذة جنسية، ويتبول ويتبرز بلذة جنسية، ويمص إبهامه بلذة جنسية. يكبر الصبي فيحس بشهوة جنسية تلقاء أمه التي ينافسه فيها والده، فيكره أباه ويكبت هذا الكره في اللاشعور. أما الدين عند فرويد فقد نشأ عندما أحب الصبي أمه – حسب الأسطورة الإغريقية – وقتل أباه المنافس له، وكانت تلك أول جريمة بشرية، ثم أحس الأبناء بالندم فنشأت أول عبادة عرفها البشر وهى عبادة الأب. ولكي لا يتقاتلوا على الأم إتفقوا أن لا يقربها أحد فنشأ تحريم العلاقات الجنسية. فهكذا تقول النظرية أن كل الديانات نشأت من ذلك الحدث الخطير وهو حب الأولاد الجنسي لأمهم، فالدين – كما يزعم فرويد – أمر أرضي من صنع البشر.
د) نظرية العقل الجمعي:
أسس إميل دوركايم (1858م– 1917م) نظرية العقل الجمعي. تخصص دوركايم في علم الاجتماع وأخذ تفسير دارون الحيواني للإنسان ومدده ليغطي ميدان العلاقات الاجتماعية، وقال بما سماه “العقل الجمعي” ونسب إلى هذا العقل كل ما ينسب في عالم الحيوان. ويقول دوركايم أن هذا العقل يؤثر في عقل جميع الأفراد ولا يملكون إلّا أن يطيعوه، وهو دائم التغيير، يحل غداً ما حرمه اليوم ويحرم اليوم ما كان قد أحله بالأمس. وبهذا يريد دوركايم أن يلغي الفرد ويجعله يتقبل ما يلقيه إليه العقل الجمعي حتى لا يحاسب هذا الفرد على عمله، كما لا يوجد قياس للقيم المتغيرة يحاسب أو يثاب عليها الفرد.
هــ ) العلمانية:
يرجع ظهور العلمانية إلى القرن الثالث عشر الميلادي عندما نادى المفكر الفرنسي مارسيل البدواني بفصل الدين عن الدولة؛ وتبعه جون لوك البريطاني (1632م– 1704م) ينادي بفكرة العلمانية. أما الإنجليزي جورج هوليوك (1817م– 1906م) هو أول من نحت مصطلح العلمانية (secularism). والعلمانية كما يوحي لفظها الإنجليزي (secularism) تعني فصل الدين عن الحياة، وتوجيه كل النشاطات البشرية وجهة لا دينية. وقد تسبب في إيجاد هذه النظرية استبداد الكنيسة التي انحرفت عن التعاليم المسيحية ونصبت نفسها آمراً وناهياً في حياة الغربيين دونما أية مرجعيات مقدسة. والعلمانية بهذا لا تعدو عن كونها امتداداً للنظرة المادية للإنسان، والابتعاد عن كل الروحانيات وقيم الخير.
و ) العولمة:
ثم تجئ العولمة التى تنادي بصب الناس في قالب واحد بناء على الفكر المادي الذى يزعم أن الإنسان تحكمه طبيعة واحدة. إن للعولمة جوانب اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية. ولكن يهمنا هنا جانبها الإيديولوجي أي الفكري، وهو الجانب الذي يمثل السياسات والتدابير التي اتخذها العالم الجديد، ليؤكد هيمنة الحضارة الغربية عامة والامريكية بصفة خاصة على كل العالم. فإن فلاسفة النظام العالمي اصبحوا يتحدثون عن تفوق الحضاره الغربيه وسيادتها على غيرها من الحضارات والثقافات، وإن هذه الحضارة تعبر عن نهاية المعراج لحضارة الإنسان عموماً وإنها هي القمة التي لايستطيع البشر تخطيها أبداًمهما اوتوا من قوة وأن تطور العالم في المستقبل هو أن تلحق دول العالم الثالث وكافة حضارات العالم ومجتمعاته بالحضارة الغربية – تقليداً ومحاكاة – دون النظر الي موروثات الثقافة أو جذورها الفكرية والحضارية لكل مجتمع على حدة.
ز ) نظرية نهاية التاريخ:
وقد شاع في الآونة الأخيرة مفهوم (نهاية التاريخ) الذي يتحدث عنه مؤسسه يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما (ولد في عام 1925م)، وهو أمريكي من أصل يوناني وقد أصدر في عام 1992م كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وقد نادى فيه بنهاية النظم الشمولية لتحل محلها الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية. وهذا يعني أن التاريخ بكل ما يحويه من تركيب وبساطة وصيرورة وثبات، وشوق وإحباط، ونبل وخساسة سيصل إلى نهايته في لحظة ما، ويصبح سكونياً تماماً، خالياً من التدافع والصراعات والثنائيات والخصوصيات إذ إن كل شئ سيرد إلى مبدأ عام واحد طبيعي مادي يفسر كل شئ، ولا فرق في هذا بين الطبيعي والإنساني. وسيسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وسيجد حلولاً علمية نهائية حاسمة لكل مشاكله وآلامه. وبهذا إعلان نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي انتصار الموضوع (اللاإنساني) على الذات (الإنسانية)، ومعناه تحول العالم بأسره إلى كيان خاضع للواحدية المادية التي تجسدها الحضارة الغربية والتي لا تفرق بين الإنسان والأشياء والحيوان .
وهنالك فلسفات وايديولوجيات مادية أخرى لم نذكرها، مثل: البراجماتية أو الذرائعية، النسبية، الوجودية، التمركز حول الأنثى، وغيرها.
ثالثاً: نتائج الفكر المادى وآثاره:
وعليه يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء كل هذه الأيدولوجيات العلمانية الشاملة (النازية – الماركسية – الليبرالية – الصهيونية – الفرويدية – الداروينية وغيرها من فلسفات ملحدة) هو ما يسمى التطور أحادي الخط (unilinear)، أي الإيمان بأن ثمة قانوناً علمياً وطبيعياً واحداً للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر البشرية كافة، وأن التقدم هو في الواقع عملية متصاعدة من الترشيد المادي، أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة/المادة، فتستبعد كل العناصر الكيفية والمركبة والغامضة والمحفوفة بالأسرار بحيث يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد.
إن هذه الفلسفات والنظريات المادية ما هي إلّا أساليب وطروحات ومناهج وفلسفات متنوعة ولكنها تنادي بفكرة واحدة هي مادية الإنسان، وهدفها في نهاية المطاف مسخ الإنسان وسلب انسانيته وإحلال ما يلي من مفاهيم وقيم شوهاء محل الإنسانية السمحاء، ومفاهيمهم التى يريدون إحلالها هى:
1- إنتشار الإباحية في العالم الغربي والتي ليست هي مجرد مشكلة أخلاقية، وإنما هى أيضاً قضية معرفية. فالإباحية هى جزء من هذا الهجوم على الطبيعة البشرية وعلى قداسة الإنسان.
2- إنكار القيم الإنسانية والإصرار على قيم التنافس والصراع وحرية السوق وآلياته بعيداً عن تدخل الدولة لنصرة الضعفاء، وكل هذه المفاهيم هي تدويل للرؤية الداروينية التي تقول: “البقاء للأصلح” والتي وطدت للنظريات العرقية والإستعمار والإستبداد وتجارب العلم اليوم لانتاج نسل أفضل والقتل الطبي الرحيم على أساس علمي كما يزعمون.
3- ونصل في النهاية إلى مسخ الإنسان ونزع الصبغة الإنسانية (dehumanization) والروحية منه وتحويله إلى أحدى القطع الطبيعية المعملية.
رابعاً: الحل وخلاص البشرية:
لقد رد القرءان الكريم على كل هذه الأباطيل الإلحادية. فدعواهم بالطبيعة كخالق يعني صدور الكون من غير علة أو سبب. إذا قلنا: إن الكون وجد من نفسه منقطعاً عن سببه كان ذلك مساوياً لقولنا: بإن العدم سبب الوجود. وهذا غاية في البطلان؛ لأن العدم لا يتصور أن يكون مصدراً للوجود، ففاقد الشئ لا يعطيه. وقد رد عليهم القرءان الكريم بقوله تعالى: (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) الطور، 35. أما “الطبيعة/المادة” وخصائصها فهي من خلق الله، فهي لا تخلق شيئا. قال تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) الحج، 73. وقال عز وجل: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الجاثية، 26. وقال سبحانه وتعالى: (ويقول الإنسان إذا ما مت لسوف أخرج حياً * أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً) مريم، 66 67.
وبعد، فخلاص البشرية من هذا التخبط الفكري إنما يكمن في الآتى:
1- الاعتراف بأن الإنسان يتجاوز المادة/الطبيعة ولا يخضع لقوانينها بالكلية، فهو ظاهرة متعددة الأبعاد ومركبة غاية التركيب ولا يمكن اختزاله في بُعدٍ من أبعاده أو وظيفة من وظائفه البيولوجية. فهنالك جانبه الروحي الذي هو جزء يتجزأ من الطبيعة، يتصل بها وينفصل عنها، وهو لهذا كله لا يمكن رصده من خلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية المعملية.
2- الإيمان بالله الواحد الأحد، وتبني المنهج الرباني في تأسيس علاقة الإنسان بربه وبأخيه الإنسان وبما حوله من البيئة التي خلقها الله تعالى وسخرها للإنسان. فقد وضع الإسلام الأساس الإعتقادي والتشريعي المتين لحياة يكرم فيها الإنسان وتزاد قيمته البشرية بازدياد التقوى وامتثاله أمر الله عز وجل.
ففي رسالة الإسلام – وفي ذلك وحده – يكمن الخلاص والنجاة من التخبط الفكري والتدهور الأخلاقي، وبذلك وحده يتم إيقاف المسخ المنظم للقيمة الإنسانية وإفراغ البشرية من محتواها الروحي وأخلاقها الربانية.
هذه عزيزي القارئ مجرد مؤشرات وإلماحات على الفكر الغربي المادي، قصدنا بها أن يعرف المسلم الكريم الخطر الغربي الذي يحدق به وبإسلامه فيتقيه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.