بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الطهارة في الإسلام (2)

بقلم عبدالرحمن ود الكبيدة. 

   تناولنا في المقال السابق طهارة البدن والثوب والمكان، أي طهارة الظاهر. وفي هذا الحديث سوف نتناول طهارة الباطن- العقل والقلب والروح، إن شاء الله تعالى.

      ذكرنا سابقاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب”. والصورة المقصودة في الحديث هي التماثيل والمنحوتات لغير لعب الأطفال، ولا يدخل فيها الصور الشمسية للوثائق والمستندات كالبطاقة الشخصية وجواز السفر والشهادات الدراسية وغيرها. وللإمام الغزالي – وهو أحد أعمدة علم النفس الإسلامي – تفسير لطيف لهذا الحديث مفاده أن القلب بيت الحكمة الربانية؛ ولن تدخل ملائكة الهداية والعرفان قلباً يمتلئ بكلاب الشهوة والنفس الشريرة وصور الشرك.

      وانطلاقاً من حديث الإمام الغزالي نقول أن نظافة الإناء وتطهيره يجب أن تسبق صب المواد في هذا الإناء. فإذا كانت طهارة البدن والثوب والمكان تعني إزالة النجاسة من هذه الأمكنة، فإن طهارة القلب تعني محو وإزالة أدران الشرك.

      ومثلما تزال النجاسة الحسية بالماء الطهور، فإن إزالة أدران الشرك تكون بالعلم الطهور؛ أي بالعلم الذي لم يتغير لونه و لا رئحته ولا طعمه.

      فلون العلم ورائحته وطعمه إن يكونوا علي ما جاءت به الفطرة الإسلامية من معانٍ يريدها الشارع، وليس بتأويلات الهوى الباطل.

      وخاصية اللون هذه يحددها لنا علماء الفقه الذين يوائمون لنا صحيح المعقول بصريح المنقول؛ فمجال هؤلاء العلماء البحث ظواهر النقل الذي به يدخل الإنسان في دائرة الإسلام. فاللون من ظواهر الدين التي تراها عين الناظر ولو من بعيد، فاللون هنا هو مؤشر لإعمال العقل والتفكر والنظر في أهمية التدين لاعتناق الإسلام.

      أما رائحة العلم الذي تشتم منه خفيات الشرك وأدران العقيدة الفاسدة فهو من اختصاص علماء التوحيد والإيمان الذين يهذبون لطيفة الإيمان وهي القلب. كما إنهم يشذبون المنطق فيخضعونه للدين ولا يفعلون العكس باخضاع الدين للعقل، فهم يقولون لنا أن الطهارة أمر صفة معنوية وإن لم يبد ظاهرها على المكان، مثل النجاسة الحاصلة بعد جماع الرجل والمرأة، فإن أزيل ظاهر الخبث بالاغتسال العادي بالماء فلن يزول باطنه إلّا الغسل الشرعي. والرائحة تشمها الأنف بالاقتراب النسبي من الماء، والرائحة هنا هي مؤشر لإعمال القلب في الإيمانيات.

      غير أن طعم العلم الفاسد هو من دقائق علماء الرقائق والسلوك الإحساني، وهم أرباب التصوف الذين يجولون بعملهم في مجال الروح. فإن أشد أضرار الماء يكون في طعمه الذي إن تسرب منه إلى الجوف قطرة قد تحدث للجسد ضرراً بليغاً. وهكذا فإن علماء الصوفية – وهم أهل الذوق والعرفان الذوقي – هم خير من يحدد لنا طعم الإيمان الذي به تزكو الروح، والطعم هنا مؤشر لإعمال الروح في التزكية.

     وهذا البيان للعقل والقلب والروح ليس من قبيل الفصل والتشرذم للخلقة البشرية، فلن يكتمل الإنسان إلّا بهذه المكونات الثلاثة (العقل والقلب والروح).

      قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر، 28، 29. وبهذه النفخة الروحية اكتسب الإنسان فضله على سائر المخلوقات. فعلى حد قول الشاعر: “فأنت بالروح لا بالجسم إنسان”. فالروح هي التي تستقبل الإدراكات الربانية. والروح هي المهيمن على كل التكوين الإنساني الذي يشمل الجسم والعقل والقلب. فمن صفت روحه صلح جسمه وعقله وقلبه، أي صلح إسلامه وإيمانه وإحسانه.

      ولما كانت الروح الإيمانية مكانها لطيفة القلب جاء في الحديث الشريف عن القلب: “بأنه مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله”. وبهذا يكون مجال العمل في الروح مهيمناً على مجالي العمل في العقل والقلب، ومن هنا كانت درجة الإحسان فوق درجتي الإسلام والإيمان.

      فإن كان هذا شأن الطهارة الخطير، فإنه شأن وأي شأن. فطهارة البدن والثوب والمكان تخص الشخص صاحب البدن والثوب ومستخدم المكان.

      ولكن ما بالنا بطهارة الروح من الآتي – على سبيل المثال لا الحصر:

* أكل أموال الغير بالباطل.

* خداع الناس واضطهادهم وتسخيرهم لمنافع شخصية قد تعود على المُسَخَّر بالضرر.

* عدم الإخلاص في أداء الأعمال والوظائف التي يعود نفعها على كل الأمة.

* الظلم والمحاباة ومجاملة شخص على حساب وضرر الآخرين.

      وهذه عموميات تندرج في داخلها تفاصيل كثيرة بارتكابها تتلوث الروح ويران على القلب ويضل العقل، حيث لا يجدي مع هذه النجاسات تطهير البدن بالعطور الفاخرة وتزيينه بالثياب الباهرة، وترصيع الديار بالنقوش الظاهرة.

      فمن لم يتطهر من الرذائل المذكورة أعلاه فأنَّى له في قلبه بدخول ملائكة العدل والإنصاف وأكل الحلال والشفقة على الناس والإيثار والإخلاص في الوظائف والأعمال ومعاونة الضعفاء والتكافل والتراحم والتواد الذي يجعل المسلمين كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضاً ؟ !

       (وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم) النور، 15.    

Scroll to Top