بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الأخلاقيات التطبيقية والقيم 1
“الأخلاقيات التطبيقيةApplied Ethics ” ظاهرة فكرية جديدة غزت المباحث التي تندرج في إطار ما يعرف بـ “الفكر الأخلاقي الجديد” في ميادين البحث والممارسة في الدول المتقدمة، وصاحبتها ظاهرة أخرى لا تقل عنها إثارة للاهتمام تتمثل في تزايد الطلب على الأخلاق والدعوة لتخليق كل ميادين المجتمع الحديث (تخليق المهن، تخليق السياسة، تخليق مؤسسات الدولة، تخليق التعليم والصحة، تخليق البنوك والمؤسسات المالية، تخليق الصحافة ووسائل الإعلام، تخليق الفضاء العمومي… الخ).
وفي هذه المساحة نتناول هذه الأخلاقيات والقيم بتسليط الضوء عليها، وبالحديث عن موقف الإسلام من هذه القضية.
ما المقصود بالأخلاقيات التطبيقية؟ وما السر وراء تزايد الطلب على الأخلاق والدعوة لتخليق كل مناحي الحياة المعاصرة؟
الأخلاقيات التطبيقية هي مجموعة من القواعد الأخلاقية العملية المجالية التي تسعى لتنظيم الممارسة داخل مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا وما يرتبط بها من أنشطة اجتماعية واقتصادية ومهنية، كما تحاول أن تحل المشاكل الأخلاقية التي تطرحها تلك الميادين، لا انطلاقا من معايير أخلاقية جاهزة ومطلقة، بل اعتمادا على ما يتم التوصل إليه بواسطة التداول والتوافق، وعلى المعالجة الأخلاقية للحالات الخاصة والمعقدة أو المستعصية. وفيما يلي أبرز مجالات الأخلاقيات التطبيقية:
أخلاقيات الطب والبيولوجيا؛ أخلاقيات البيئة؛ أخلاقيات الإقتصاد؛ أخلاقيات المعلومات؛ أخلاقيات الإعلام والاتصال؛ وغيرها من المجالات الإنسانية. ويطرح كل من هذه المجالات إشاكليات أخلاقية نوعية.
ففي مجال الطب وعلم الجينات، على سبيل المثال، يطرح الإنجاب الاصطناعي مشاكل أخلاقية أخرى تتعلق بعدة مسائل منها مسألة التلقيح الاصطناعي وخاصة في حالة اللجوء إلى طرف ثالث متبرع بالمني، مما يطرح مشكل هوية الطفل وحقه في التعرف على والده البيولوجي؛ ومسألة الإخصاب خارج الرحم وما يطرحه من مشاكل تتعلق بانطلاق عملية “تصنيع الإنسان” والسعي لتغيير طرق الإنجاب الطبيعية؛ وبنوك المني وما تطرحه من مشاكل الاتجار في عناصر الجسم البشري وخاصة بعد الترويج لما عرف ببنوك مني العباقرة؛ ومسألة بنوك الأجنة وما تطرحه من مشاكل شروط حفظها، ومدى مشروعية التخلص من الأجنة الفائضة، ومشكل إنتاج أجنة بشرية خصيصا للبحث العلمي، وما يطرحه ذلك من تعارض مع مبدأ كرامة الإنسان؛ وأخيرا مسألة استئجار الأرحام وما تطرحه من مشاكل تتعلق بامتهان إحدى الوظائف الإنسانية الأساسية التي تؤديها المرأة وهي وظيفة الأمومة، إضافة إلى تشييء الأم الحاضنة والطفل معا والابتزاز المادي الذي يحتمل أن يتعرض له الزوجان من طرف الأم الحاضنة، وما يمكن أن يتعرض له الطفل سواء من طرف الأم الحاضنة أو من طرف الأم الاجتماعية من إهمال في حالة إصابته بتشوه أو مرض وراثي خطير.
أما بالنسبة للجهاز العصبي، فقد أصبحت “علوم الجهاز العصبي”، بعدما فتحت باب الأمل لعلاج أمراضه، تطرح مشاكل أخلاقية ترتبط بمحاولات التحكم في الجهاز العصبي، وظهر بالخصوص تخوف من التحكم في عقل الإنسان وتفكيره سواء كفرد أو كجماعة؛ وتطرح محاولات التحكم في الجهاز العصبي بواسطة الجراحة وزرع الأنسجة والخلايا الجذعية، مشاكل أخلاقية ترتبط بتغيير شخصية الإنسان والنيل من كرامته وانتهاك حقوق الأجنة؛ أما التحكم في الجهاز العصبي بواسطة العقاقير، فيثير تخوفا خاصا من السعي لتغيير تفكير الأفراد أو إخضاع المجتمعات للتخدير وتحويلها إلى آلات بشرية منصاعة كليا.
تطرح “أخلاقيات الطب والبيولوجيا” رهانات متعددة: أخلاقية وقانونية وحقوقية وفلسفية، سنحاول تسليط بعض الأضواء على الرهان الفلسفي وحده: فالفلاسفة يوجدون في طليعة المهتمين بالفكر الأخلاقي؛ لأن الأخلاقيات تفكير فلسفي أيضا في المشاكل الأخلاقية الناجمة عن الأبحاث والدراسات المعاصرة في ميادين علوم الحياة؛ ولأن آراء الفلاسفة وطرقهم في التفكير ومفاهيمهم كانت من ضمن الأدوات التي استعان بها الفكر الأخلاقي الجديد لتحليل ومعالجة تلك المشاكل؛ كما أن ممارسات الأطباء والباحثين كثيرا ما تستدعي التأمل الفلسفي في مواضيع موت الإنسان وحياته ووجوده وطبيعته ومصيره…الخ.
وفي مجال البيئة لم تكن المشاكل البيئية مطروحة، في يوم من الأيام، بنفس الحدة التي تطرح بها في الوقت الراهن، والسبب هو أن هناك تهديدا حقيقيا لوجود الإنسان على وجه الأرض، بل إن التدمير يطال الكرة الأرضية بجمادها ونباتها وحيوانها، في برّها وبحرها وجوّها، بسبب ما وفرته الثورة الصناعية والتكنولوجية من إمكانات هائلة للإنسان ضاعفت طاقاته آلاف المرات ومكنته في استغلاله للطبيعة من أن يضاعف تدميرها بالقدر نفسه أو أكثر.
لقد أدى التدمير المتزايد لعناصر البيئة إلى ظهور فعاليات مختلفة هدفها الدفاع عن البيئة والتصدي لأشكال الإضرار بها، وأدى من جهة أخرى إلى ظهور مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الجديدة التي بدأت تنتشر في الساحة الفكرية المعاصرة وتفرض نفسها على المهتمين بقضايا البيئة والتنمية والاقتصاد والصناعة والشأن العام: أخلاقيات البيئة، قوانين وحقوق البيئة، حقوق الحيوان، الفلسفة البيئية، السياسات البيئية، أحزاب الخضر، جمعيات حماية البيئة، الحركة البيئية… الخ، تندرج هذه المفاهيم وما تتضمنه من قضايا وتساؤلات في إطار الفكر البيئي المعاصر.
أما في المجال الإقتصادي فنجد الآن من يستخدم منتجات التكنولوجيا في تكثير المحاصيل وتسريع انتاجها بغية الحصول على العائد المالي الوفير. فاستخدام المخصبات والهندسة الوراثية في الانتاج الزراعي بصورة مكثفة، واستخدام المسحوق الكيميائي لتكثير كمية الخبز كل ذلك يضر بصحة الإنسان.