بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أركان الطريق الصوفي

بقلم/ عبد الرحمن (ود الكبيدة)

إن للتصوف أركاناً وواجبات يقوم عليها سلوك القوم، وأهم ما يميز التصوف هو الزهد، أو الفقد، أو إن شئت فقل الترك. قال شاعرهم:

بيت الولاية قسـمـت أركـانه           ســــاداتـنـا فـيـه مــن الأبـدال

ما بين صـمت اعـتزال دائم           والجوع والسهر النزيه الغالي

فالشعر أعلاه يتحدث عن:

* الصمت فيما يشير إليه الحديث الشريف: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت” صحيح البخارى، كتاب الأدب، 31 باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ص 1280، حديث رقم 6018وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” موطأ مالك، باب فضل الحياء، ص 33 .

وترك ما لا يعني المرء هو ترك فضول الكلام وفضول الاهتمام. ولهذا قال القوم: الورع ترك الشبهات. وهم في ذلك يستأنسون بالحديث أعلاه وبقول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه: “كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام”.  الرسالة القشيرية ، ص 110.

     * أما اعتزال الناس والخلوة فقد بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه:

فقد اعتزل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في دار الأرقم بن أبي الأرقم.

ثم أن هذه العزلة أمر حضت عليه السنة النبوية ولاسيما عند الفتن:

ففي الحديث: “أحب شئ إلى الله الغرباء”. قيل ومن الغرباء ؟ قال: “الفرارون بدينهم، يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه السلام”. قال أبو عبد الرحمن سمعت سفيان بن وكيع يقول: أني لأرجو أن يكون أحمد ابن حنبل منهم. الزهد، لابن حنبل، ص 217، الحديث رقم 806.

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبي أو ببعض جسدي، فقال: “يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وأعدد نفسك في الموتى” وفي رواية: “فعد نفسك من أهل القبور”. مسند الأمام أحمد بن حنبل، ص 36، الحديث رقم 1/24، 4764،  و ص 380، الحديث رقم 2/42، 5002. وكذلك انظر الزهد، للإمام أحمد ابن حنبل، ص 22، الحديث رقم 42.

      * أما الجوع فمن أجله قد فرض الصيام، وندب تقليل الأكل.

      * والآيات والأحاديث في قيام الليل أشهر من أن نذكرها.

ففي كل ما تقدم يبرز لنا مفهوم الترك جلياً في بيتي الشعر المذكورين. ففي الصمت ترك فضول الكلام، وفي العزلة ترك مخالطة الأنام فيما لا ياتي منهم بسلام، وفي الجوع ترك فضول الطعام، وفي السهر ترك المنام. والترك يعني فقد المتروك والزهد فيه.

وهذا الترك أو الفقد هو نوع فناء لحظوظ النفس، وفي هذا الفناء حياة النفس. فمن المعلوم أنه لا يحى ويُبْعَـث إلّا من فني ومات، فلا بعث قبل موت؛ وقد كانت لنا موتة قبل الإيجاد هي كوننا كنا عدماً في حكم من مات أو لم يوجد، حيث لم نكن شيئاً مذكوراً. وعلى هذا تخرج قولهم: “لا بقاء إلّا بعد فناء”. فهذا سيدنا موسى عليه السلام ترك عصاه وألقاها، زهد فيها، وفني عنها، أي تركها لله تعالى، فقيل له خذها ولا تخف، فأخذها لله تعالى. أُعيدت إليه وهي ذات مزايا أكثر مما كانت عنده قبل أن يزهد فيها. فالترك فناء والأخذ بقاء.       

وهذا الفقد هو أحد مفاهيم الموت المعنوي الذي لا تجده إلّا عند الصوفية. فالموت المعنوي عندهم يتخذ شكل الفناء، ونعني به فناء الشهوات وقهر النفس عن المرادات. وقد بينوا فيه أنواعاً رمزوا لها بالألوان، فقالوا:

أ- الموت الأبيض هو الجوع، أو موت شهوة البطن لتنور الباطن به.

ب- الموت الأصفر لبس المرقعات لاصفرار عيش الزاهد بالقناعة، وهو موت شهوة زينة الملابس.

جـ-  الموت الأسود فهو احتمال الأذى، وهو موت الانتصار للنفس حيث يرى الكل منه تعالى.

د – الموت الأحمر مخالفة النفس والهوى وكل ما تشتهيه النفس مما يطغيها، وهو لب الجهاد الأكبر.

 وهذه الأنواع من الموتات يحقق فيها القوم ما يسمونه بـ (الفناء)، فمن تحقق فى فنائه فقد مات، ومن مات رأى الحق سبحانه وتعالى. قال الشيخ أبو العباس المرسي: “لا يدخل على الله إلّا من بابين: باب الفناء الأكبر وهو الموت الطبيعي، وإما من باب الفناء الذي تعنيه الطائفة”. أبو الفضل عبد القادر بن الحسين ابن مغيزيل، الكواكب الزاهرة في اجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم، ص 370.

وجماع أمر هذا الفناء هو الزهد والورع.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخاطب أبا هريرة رضي الله عنه: “كن ورعاً تكن أعبد الناس” سـنن ابن ماجـة، كتاب الزهـــد، 24باب الورع والتقــوى، ج 2، ص 1410، حـديث رقم 4217.

لأن في الورع صحة اليقين وكمال التعلق برب العالمين وقوة الثقة بالله، مما يتضمن موت النفس واستغناءها عن طلب الحاجات من مخلوق.

عمــدةُ الديـنِ عـنـدنا كلمـاتٌ     أربعٌ مِنْ كلامِ خيرِ البرِيَّة

أتقِ الشبهاتِ وازهدْ ودعْ ما     ليس يعـنيك واعمَـلَنْ بِنِيَّة

وفي الحديث الشريف: “أزهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”  شرح الجرداني على الأربعين حديثاً النووية، الحديث الحادي والثلاثون، ص 183؛ وانظر: سن ابن ماجة، كتاب الزهد، 1باب الزهد في الدنيا، ج 2، ص 1373، حديث رقم 4102.

وصلى الله على سيدنا محمد ذاتاً ووصفاً واسماً.
(( انتهى)).
Scroll to Top