الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الآجرومية

Written by Super User. Posted in قرأت لك

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صحبه وسلم

الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الآجرومية

 

      إليك أيها القارئ الكريم قراءة في كتاب "الفتوحات القدوسية في المقدمة الآجرومية" تأليف العارف بالله تعالى الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن الحسين بن محمد بن عجيبة الحسني.

العمق الروحى لمفاهيم النحو العربى :

          لقد تشبع المسلمون بالعقلية الإسلامية وسمت أرواحهم وخلع على أسرارهم علوم لدنية ومعارف ربانية، فتغيرت رؤياهم للأشياء واكتسبت الكلمات عندهم مفاهيم فقهية جديدة، واكتسبت معانى العبارات الظاهرة أبعاداً روحية عميقة، فجرت منهم تأويلات إشارية حتى لمعانى مفردات النحو العربى. إن ابن عجيبة الحسنى قد كتب فى مقدمة كتابه هذا : "فالنحو على قسمين، نحو لسان الفم، ونحو القلب، ومعرفة نحو القلب عند العقلاء آكد وأنفع من معرفة اللسان ..........." إلى أن يقول : " ...... وعلم القلب هو اليقين الكبير ، ومعرفة الله بنعت العيان، وهو النحو القلبى ، وهو فرض عين على كل مسلم .......".

          وفى شرحه هذا لمقدمة ابن آجروم فى النحو يعكس ابن عجيبة العمق الروحي لمفاهيم النحو العربي، فيورد تفسير القاعدة النحوية على ما ارتضاه أهل النحو من بيان القاعدة وتفريعاتها، وهذا هو نحو اللسان الذى قصده. ثم يتجه بعد ذلك الشرح الذى يوافق علماء العربية إلى استخلاص الإشارة الصوفية الروحية لمعانى النحو على نهج "نحو القلب" الذى ذكره فى المقدمة.

          ونحن هنا نأخذ مثالين من شرح ابن عجيبة ، وهما الحديث عن الفاعل والحديث عن المنادى.

1- فالفاعل الذى عرفه النحويون بأنه الاسم المرفوع المذكور قبله فعله قد أشار إليه ابن عجيبة بقوله :

          "الفاعل الحقيقى هو الاسم المرفوع القدر العظيم الشأن وهو الحق جل جلاله، المذكور قبله فعله عند الغافلين والمذكور بعده فعله عند الذاكرين، المذكور قبله فعله عند الطالبين أو السائرين والمذكور بعده فعله عند العارفين الواصلين، المذكور قبله فعله عند أهل الدليل والبرهان والمذكور بعده فعله عند أهل الشهود والعيان، أهل الدليل والبرهان يذكرون فعله ويستدلون به عليه، وأما الواصلون من العارفين فيذكرونه ويرونه قبل رؤية فعله، فهم يستدلون بالله على غيره، فلا يرون إلاّ هو، كما قال شاعرهم :

مـذ عرفت الإله  لم أر غيرا       وكذا الغير عندنا ممنوع

مذ تجمعت ما خشيت افتراقاً       فأنا اليوم واصل مجموع

ثم قال وهو – أى الاسم – على قسمين : ظاهر عند العارفين، لا يخفى على أحد عندهم إلاّ على الأعمى، قال الشاعر :

 

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد        إلاّ على أكمه لا يبصر القمر

ومضمر، أى مستتر، باطن عند الغافلين كما قال فى البيت الثانى :

لكن بطنت بما أظهرت محتجباً        وكيف يُبْصَرُ من بالعزة استترا".

2- وفى علم النحو نجد أن المنادى خمسة أنواع : المفرد العلم ، والنكرة المقصودة، والنكرة غير المقصودة، والمضاف، والمشبه بالمضاف. وفى هذا المنادى تأتى إشارة ابن عجيبة الحسنى كما يلى :

          "المنادى فى الأزمات والمآرب خمسة : المفرد العلم وهو الحق جل جلاله، وهذا هو المقصود بالذات، والأربعة وسائل. وقد يطلق المفرد العلم على الرسول عليه الصلاة والسلام لانفراده بالكمالات ، وظهوره بالمعجزات ظهور نار القرى على علم، وإليه أشار صاحب البردة  بقوله :

خفضت كل مقام بالإضافة إذ      نوديت بالرفع مثل المفرد العلم

    ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام باب الله الأعظم ، وشفيعه الأكرم ، به تفرج الكروب ، وتقضى المآرب. ولله در القائل سيدى محمد البكرى الصديقى حيث قال :

فلذ به فى كـل ما ترتجى     فإنه المأمـن والمعقل

وعذ به من كل ما تخشى     فهو شفيع دائماً يقبل

والنكرة المقصودة، وهى سر الولاية ، فمن ظفر بها كان باباً من أبواب الله ، يفزع إليه فى الشدائد ، وتقضى بشفاعته الحوائج لأنه نائب عن الرسول rالذى هو الحجاب الأعظم. وإنما فسرنا النكرة المقصودة هنا بسر الخصوصية لأنها تنكر أولاً، وتقصد ثانياً بعد التمكن منها، فيظهر الله صاحبها بعد الخفاء لينتفع به العباد وتحيا به البلاد.

    والنكرة غير المقصودة هى الخصوصية التى بقيت على حال الخفاء، حتى مات صاحبها، فهو كنز من كنوز الحق، وعروس الحضرة، لا يعرفه إلاّ أمثاله، ومن قرب منه.

    والمضاف إلى أولياء الله بالتربية والخدمة، وهو ملحق بهم فى المآل.

    والمشبه بالمضاف وهو من تزيا بزيهم وانتسب إليهم، ولم يكن له ناهضة للظفر بسرهم، فلا شك أنه تلحقه بركاتهم، وتنسحب عليه أنوارهم كما قال القائل :

لى سـادة من حبهم       أقدامهم فوق الجباه

إن لم أكن منهم فلى      فى حبهم عز وجاه"

          وعن حركات الإعراب على المنادى يقول أهل النحو العربى : المفرد العلم والنكرة المقصود يبنيان على الضم من غير تنوين، والثلاثة الباقية منصوبة لا غير .

          ففى حركات الإعراب هذه تجئ إشارة ابن عجيبة بقوله : "أما المفرد العلم، ويراد به الرسول عليه الصلاة والسلام، والنكرة المقصودة فيبنى أمرهم على الضم على الله، والجمع بإله من غير ثنوية الأثر بشهود المؤثر، فلا يفترقون عنه ساعة.

          والثلاثة الباقية منصوبة للمقادير، يجرى عليهم ما كتب لهم مع السكون تحت مجاريه، إن قربهم فبفضله، وإن فرقهم فبعدله، والستر من أجله يحلو وبالله التوفيق". 

 

 

                                            انتهى.