تأثر الفنون الجميلة بالتصوف

Written by Super User. Posted in فنون

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تأثر الفنون الجميلة بالتصوف

      لن نتوغل كثيراً في العلاقة بين الفنون الجميلة والتصوف، ولكننا نمس عليها مساً خفيفاً بقدر ما يتضح لنا أن التصوف لا يحارب الفنون، كما أن الفنون لا تستنكف من الاقتباس من جماليات التصوف.

      يلتزم الفن الصوفي بالروحية حيث أنه ينتهج أسلوب التجريد اللاتمثيلي، فلا تتمثل الصورة بذاتها وهيئتها، بل تتحول إلى فكرة مجردة يجسدها التشكيل الرمزي. وهذا التجريد هو الذي جعل حجر الزينة على قمة جدار المسجد الخارجي يبدو وكأنه يمثل جنود الله تعالى أو صفوف المصلين أو الذاكرين.

      إن الفن التشكيلي الصوفي يظهر أكثر ما يظهر في فن الكتابة بالخط Calligraphy، وهو فن وتصميم الكتابة التي تستعمل الحروف العربية. تتميز الكتابة العربية بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب.

      وعن طريق هذا الفن ازدهر فن زخرفة المساجد والقصور، كما يظهر هذا الفن في الزخرفة الإسلامية، تلك الزخرفة التي تستخدم الرسم بالخطوط أو فن النقش والزخرفة العربي (أرابسك  arabesque).

      وتجيء الشرافة هنا في الصدارة، حيث أنها ابتكار صوفي محض. وهي نوع من الرسم الفني يوضع على جوانب لوح كتابة القرءان الكريم. وهي زخرفة احتفالية ولوحة تشكيلية تصوغها يد الشيخ أو الطالب بالخطوط والألوان، والغرض منها إعلام الطالب بأنه بلغ مقداراً معيناً من حفظ القرءان الكريم يحتفل بعده بزخرفة اللوح (1).

      ومن هذه الشرافة اقتبست زخرفة بوابة منزل الشخص السوداني الذي يذهب للحج، فيرجع ليجد داره تستقبله بالزينة التشريفية والنقش الذي يحوي عبارة مفادها: "يا داخل هذي الدار صل على النبي المختار. حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً". فهنا نجد زخرفة احتفالية. وفي هذا المجال فقد رأينا بعض الشركات والمؤسسات التجارية والاجتماعية وسيارة زفة العريس والعروس – رأيناهم يضعون قطع القماش أو الورق الملون على سبيل زخرفة المكان أو السيارة؛ وهذا أثر صوفي سبقهم إليه أهل التصوف بتعليق (الحمام)، وهو قطع صغيرة مثلثية الشكل من القماش ومنسوجة على شريط من الحبل.

      وللدرويش جبة مرقعة تحتوي على عدة قطع من القماش بألوان متنوعة. إن تجميع قصاصات القماش ولصقها وخياطتها في جبة واحدة (تسمى المرقوعة) يكمن فيه فن تلقائي يقف مندهشاً أمامه مؤسسو فن (الإلصاق أو الكولاج collage)، والكولاج هو فن يعتمد على قص ولصق العديد من المواد معاً، وبالتالي تكوين شكلٍ جديد.

     ومن ناحية أخرى نقول إن الدرويش الذي يرقع جبته فإنما يضع الألوان عليها بصورة تلقائية مرسياً بذلك منهج (الانطباعية أو التأثيرية impressionism)، والانطباعية هي أسلوب فني في الرسم يعتمد على نقل الواقع أوالحدث من الطبيعة مباشرة وكما تراه العين المجردة بعيداً عن التخيّل.  فالدرويش يرقع جبته بالألوان التي هي في متناول يده بعيداً عن الانتقائية، وهكذا يرسم الفنان الانطباعي المشهد الذي يراه بعيداً عن التخيل والتزويق (2).

      ولا يغفل رجال الفنون من تناول المادة الصوفية في رسوماتهم ونحتهم الذي يصور حلقة المديح أو الذكر. والفنان إذ يفعل ذلك إنما يأخذ من واقع حياته المعاشة ومن حياة المجتمع السوداني الذي لا يخلو من أثر صوفي هنا أو هناك. فكم وفرت ليالي المديح وحلقات الذكر والاحتفالات الصوفية مورداً خصباً لعدسة المصور أو ريشة الرسام. وكم رأينا أن تداخل أجناس الفنون من تشكيل ونحت وتصوير ورسم وتصميم إيضاحي – كل ذلك يرفد فن المسرح الذي يضع لمساته الفنان الذي ارتوى من معاني الألوان ودلالاتها وإشاراتها لدى المنهج الصوفي.

      وفي حلقة الذكر الصوفي – كما في الأوبرا – نجد الفنون السبعة، وهي: الشعر والموسيقى والغناء (ولاسيما الكورال، أي الغناء الجماعي) والباليه (الحركة الراقصة) والديكور والفنون التشكيلية والتمثيل الصامت. ومن هنا قلما يستغني أي فنان عن التصوف. بل نعتبر التصوف رائداً في مجال الأوبرا ومؤسساً لها، حيث نشأ التصوف منذ القدم، أي قبل أن تبدأ الأوبرا في أوربا، في القرن السابع عشر على يد الإيطالي "كلوديو مونتيفيردي  ClaudioMonteverdi" (1567م– 1643م).

      وهكذا تتكامل الفنون الجميلة في حلقة الذكر فيتفاعل معها المشاهد والمستمع في تواصل سلس أوجدته تنوع وسائل الاتصال السمعية والمرئية (audio-visual aids) التي جاء بها الإعلام الصوفي بوسائطه المتعددة التي سبق بها التصوف مدارس التربية المعاصرة. فاليوم تنادي مدارس التربية الحديثة بإضافة المؤثرات البصرية والسمعية إلى نظام التعليم وذلك باستخدام فنون الوسائط المتعددة Multimedia، وهو مصطلح واسع الانتشار في عالم الحاسوب يرمز إلى استعمال وسائل إعلام مختلفة لحمل المعلومات مثل (النص، الصوت، الرسومات، الصور المتحركة، الفيديو، والتطبيقات التفاعلية).

      وفي السودان تأثر الفنان التشكيلي بالتصوف واتخذ من مفردات التصوف الفنية منطلقات أبدع من خلالها اللوحات التشكيلية. ويمكننا اتخاذ النماذج التالية من الفنانين:

      1- الفنان إبراهيم الصلحي (1349هـ/ 1930م– ......): تحدث عن الأثر الصوفي في رحلته الفنية، وعن اللمسة الصوفية التي ظهرت مؤخراً في العديد من أعماله قائلاً: "الصوفية متأصلة فنياً منذ القدم وهي من اكثر العوامل التي أثرت في أعمالي الفنية"؛ ويضيف قائلاً: "التصوف هو عملية متداخلة لها تواجد متنوع في حياتي، وصارت النزعة الصوفية متحكمة في عملي لأني أدركت إرادة الخالق في تدبير شؤون الخلق، وترسخت في نفسي هذه المسألة إضافة إلى ما ذكرت سابقاً فقد ظهرت لي أشياء بجلاء في حياتي من واقع الفرصة التي وجدتها بالإنفراد الكامل مع نفسي والتأمل في كل ماهو محيط ومن يومها إستقمت، وهذه نعمة من الله أن تؤتى للفرد منا وهو لا زال حياً وفي العمر بقية، أيضاً سبق أن التحقت بجماعة تحت راية الفلسفة العملية في بريطانيا في عام 1985م، والتي تعني بإجراء إمتداد في الحواس يدرك معه المرء ذاته بحيث تصير العين ترى ما لا تراه الأعين وتسمع الأذن ما لا تسمعه عادةً على وتيرة ما جاء في الحديث القدسي: (ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها وسمعه الذي يسمع به) وما إلى ذلك من بقية الحديث مع الحواس الأخرى. هذا بالإضافة إلى أنني والأسرة تشبعنا كثيراً ومنذ الصغر بأذكار الختمية وأشعار "النور البراق"، وإقامة (الليليات) في أيام الخميس بمنزلنا بأم درمان حيث كان الوالد متصوفاً متشبعاً بذلك. كما أن نظرة الفنان للأشياء بطبيعته الخلاقة مختلفة عن غيره من الناس وهذا فيه كثير من التقارب أو ما يقود في معظم الأحيان بالفنان إلى نفس الطريق –  طريق التصوف" (3).

      2-أما البروفيسور أحمد محمد شبرين(1350هـ1931م– .....) فقد شارك الصلحي في تأسيس مدرسة الخرطوم التشكيلية؛ كما أنه عضو في المدرسة الحروفية العربية. ولوحاته تعج بالمفردات الصوفية التي تكثر فيها الألوان المتداخلة.

      3- والفنان عبد الرحمن شنقل (1380هـ1960م–  .....) يحدثنا عن أثر التصوف في فنه، فيقول: "الاطفال يدفنون قرب مزار هذا الولي الصالح (يقصد به الشيخ موسى العزب)، ومنذ طفولتي كنت أصغي للكثير من الروايات والكرامات عن هذا الولي الصالح الذي يقف ضريحه قبالة بيتنا. اسمع عن سياحته ورياضته الروحية وورعه وكراماته، وقد تلقى تعليمه في شرق السودان وتوفي به، وأوصى بأن يوضع جثمانه على ناقة وأن يدفن في مكان وقوفها فسارت كل هذه البقاع حتى الدامر، وقد أناخت في مزاره الحالي وقبره ظاهر يزار. جسدت هذه الروايات محبتي للصوفية، وأسأل الله أن أكون واحداً منهم (4).

      4- والفنان التشكيلي ياسر إدريس (1388هـ1968م–  .....) يقول أن أول لوحة يرسمها بصورة احترافية قد استوحاها من ثورة الدراويش، فهي كانت لوحة من وحي رسالة الخليفة عبد الله التعايشي إلى علي ود حلو"   (5).

      5- والفنان الصادق محمد عجينة (1383هـ1963م–  .....)وهو المتصوف الذي لا تخلو لوحاته التجريدية من الحديث عن الرموز الصوفية. فمن بين غموض التجريد تخرج صورة القباب ويلوح زيّ الدرويش.

      6- وعلى رصيف مذاهب الفلسفة الفنية لا بد لقطارنا من توقف لنتأمل تجربة الأستاذ التشكيلي البروفيسور أحمد عبد العال (1366هـ/ 1946م– 1429هـ/ 2008م). إن الفنان التشكيلي أحمد عبد العال وبروحانياته الصوفية – قد بنى كل تجربته التـشكيلية على فكرة التوحيد (شهادة لا إله إلّا الله محمد رسول الله)، فله كتاب: (الحرف العربي، الخلفيات الروحية والجمالية) و كتاب: (المبادئ والأصول الجـمالية في الحضارة الإسلامية، دراسة في فكر الشيخ ابن عربي) (6). فهو قد أوجد تناغماً بين رِقَّة المتصوف (ابن عربي) ورِقَّة الفنان، فكلاهما ينزع إلى تشكيل وجدان جديد طاهر في داخله.

      وفي حوار معه قال الفنان البروفيسور أحمد عبد العال: "وأخيراً تبين لي أن التصوف الإسلامي وحده هو الذي يشكِّل مادة علم الجمال في الإسلام، وأعني بذلك التصوف عند كبار الأئمة المؤسسين من الذين تحققوا بمقولاتهم وأفكارهم، وذلك كأساس لوحدة الشعور والفكر والقول والعمل، وما ذلك إلّا لأن المتصوفة أقاموا الجمال في البنية الحية في الإنسان .... إن التصوف هو فن التدين باعتبار أن الفن هو تجاوز المعتاد من رؤية الحياة لسبر حقائق الوجود الذي يفضي إلى القرب الأتم من صانعه جل جلاله". ويرمي البروفيسور أحمد عبد العال إلى أن الجانب الفني في التصوف هو نزوع الصوفي إلى تجاوز المعتاد من رؤية الحياة وحقائق الوجود مما يجعل تجربة كل صوفي تجربة ثرة ومنفردة عن الآخرين. 

                         

(من كتاب: "أثر التصوف في تكوين الشخصية السودانية": تأليف عبدالرحمن ود الكبيدة).

 

الهوامش

1- هذه الشرافة تعكس مدى تطور الذوق الفني لدى دارس القرءان الكريم.

2- هذه المدارس الفنية من إنطباعية وتجميعية وغيرها أتت من بعد القرن السابع عشر، فأين هي من التصوف الذي سبقها بقرون عديدة ؟

3- نقلاً عن موقع الاتحاد العام للتشكيلين السودانيين على الشبكة المعلوماتية العنكبوتية.

4- نفسه.

5- صحيفة الانتباهة، السبت  4 جمادى الآخرة 1433هـ الموافق 7 مايو 2011م.

6- 2011،www. Wekipeadia.org April 17

 

 

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.