إرتباط اللغة بالتفكير

كتب بواسطة: Super User. Posted in قرأت لك

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

* هذه قراءة من الباب الأول من كتاب (إعجاز القرءان العزيز للغة الإنجليز): تأليف: عبدالرحمن ود الكبيدة:

إرتباط اللغة بالتفكير

          يعرِّف بعض علماء الاجتماع الإنسان بأنه صانع الآلة، ويشيرون إلى أن من أقيم الآلات التى استطاع الإنسان أن يصنعها على مدار التاريخ هى اللغة، والتى تعتبر آلة (تواصل contact / communication). هذا القول يؤخذ به على زعم أن اللغة مواضعة بشرية وصناعة إنسانية. ولكن حتى إذا سلمنا بأن اختلاف اللغات والألسن آية من آيات الله عز وجل – وهذا هو القول الحق الذى يمترى فيه بعض العلماء – فإننا لا ننكر إعمال اليد البشرية بالتهذيب والتشذيب كما تشذب الأظافر؛ وكما لا يعد صبغ الشعر خلقاً له من جديد، وإنما هو مجرد إدخال اليد البشرية فى عملية تجميل الخلق – من باب السعى والإعمار الذى من أجله نُشِر الجنس البشرى على ظهر الأرض.

          قلنا إن اللغة تعتبر آلة للاتصال البشرى. وعملية الاتصال والتواصل هذه يقصد بها نقل معانى الأفكار والأحاسيس فى شكل (مرسلة message) (لغوية language) من (المرسِل  coder) إلى (المستَقْبِل  decoder) وذلك بهدف التأثير على الآخرين فى الرأى والتعاون بين أفراد المجتمع الواحد.

          عندما تحدث الإمام اللغوى عبد القاهر الجرجانى (400هـ / 1009م - 471هـ / 1078م) عن مفهوم الفصاحة والبلاغة فقد أشار إلى حقيقة هامة هى أنه لا نظم ولا ترتيب للكلم حتى يتعلق بعضها ببعض. أى رفض الجرجانى إبعاد العنصر اللغوى من البنية وعزله عنها، والنظر إليه من خلال هذه العزلة. وقال فى هذا المعنى: "هذا ما ينبغى للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبداً، وأن يعلم أنْ ليس لنا، إذا نحن تكلمنا فى البلاغة والفصاحة، مع معانى الكلم المفردة شغل، ولا هى منا بسبيل، وإنما نعمد إلى الأحكام التى تحدث بالتأليف والتركيب" (1).  كما أنه لا بد فى النظم من أن تتلاقى معانى الكلمات على الوجه الذى يقتضيه العقل. وكذلك أكد الجرجانى أن معانى النحو هى المعانى ذات الدلالات العقلية، وأن المهم هو معرفة مدلولات النحو وليس معانى العبارات أنفسها. فقال: "إن أردت أن ترى ذلك فاعمد إلى أى كلام شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعاً يمتنع معه دخول شئ من معانى النحو فيها، ففى:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

قل الآتى:

من نبك قفا حبيب وذكرى منزل

فانظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها ؟"(2)

          فترتيب الألفاظ فى الجملة الواحدة يغير المعنى. فقولنا: "ما كل ما تفعل تُحْمَد عليه" يعنى أنك لا تُحْمَد على كل فعل تقوم به، ولكنك تُحْمَد على بعضه، أما قولنا : "كل ما تفعل لا تُحْمَد عليه"، يعنى أنك مهما تفعل لا تُحْمَد على شئ البتة.

          إن الأعرابى حين سمع المؤذن يقول: (أشهد أن محمداً رسولَ الله) – بنصب كلمة (رسولَ)، أنكر الأعرابى وقال: صنع ماذا؟ أى طلب الأعرابى ما يجعل خبراً مرفوعاً للناسخ "أنّ"، إذ أصبح (رسولَ) - بالفتح – اسماً لها باعتبار (محمداً) اسم (أنّ) و (رسول الله) بدلاً عن (محمداً)، فتأخذ إعراب المبدَل عنه.

          وقد التقط فكرة النظم والإعراب فيما بعد علماء اللغة الغربيون، فها هم يشيرون إلى تباين المعنى فى نظمين مختلفين لجملة واحدة (3):

a) The dog chased the cat .

b) Cat the dog chased the.

 فالجملة الأولى الإنجليزية – عكس الثانية – تخضع لقواعد (التركيب النحوى syntax) السليم الذى يعطى معنىً كاملاً.

          هكذا يتضح لنا معنى القول الشائع عند علماء اللغة أن: "الإعراب هو فرع المعنى". فترتيب الكلام والعبارات حسب ترتيب الأفكار أمران متلازمان؛ فبقدر جودة الصياغة اللغوية يكون وضوح الفكرة، بينما الأفكار الغامضة تتمرد جمل اللغة وتراكيبها على خدمتها.

          ومما يدل أيضاً على ارتباط اللغة بالتفكير البشرى ما نجده من اختلافات فى اللغات تبعاً لاختلاف التفكير؛ أو ما نراه من تباين الأفكار والآراء والأحاسيس  والمعتقدات تبعاً لاختلاف اللغات. إذاً فالعلاقة بين اللغة والتفكير (علاقة تبادلية  reciprocal relationship) يؤثر فيها كل من أحدهما على الآخر. يقول الدكتور ميشال زكريا: "كل من يتعلم لغة مختلفة ينظر إلى العالم بصورة مختلفة" (4). وكثيراً ما كان أستاذنا للغة الإنجليزية فى المدرسة ينصحنا بأن نفكر باللغة الإنجليزية عندما نتكلم فى حصته أو نكتب موضوعاً فى (الإنشاء أو التعبير  composition). وسر هذا النصح التربوى يكمن فى اختلاف التفكير الذى ينعكس على اللغة. فالإنجليز لديهم ستة عشر زمناً للفعل تندرج فى الماضى، المضارع والمستقبل. ولكل واحد من هذه الأزمنة الثلاثة أزمان فرعية كثيرة. وهذه التراكيب الزمنية لا نجد مثيلاً لها يطابقها فى اللغة العربية. ولهذا فكثيراً ما تجئ الترجمة العربية لهذه الأزمنة الإنجليزية غير دقيقة، وإلّا فقل لى ماذا تعنى للعربى عبارة: (مضارع بسيط) التى يقابل بها أهل اللغة العربية التعبير الإنجليزى: (present simple) ؟ وهل فى اللغة العربية مضارع بسيط، ومضارع تام أو مكتمل: (present perfect) ؟ فكل ما تم أو اكتمل فى اللغة العربية فهو "ماضٍ past" !

          وفى مجال هذا الاختلاف اللغوى الذى مرده إلى التباين فى التفكير يحضرنا المثال الذى أورده الدكتور رضوان القضمانى حيث يقول: (إننا نقيس الزمن بالأيام والسنين، أي بأسماء تدل على أزمان، وهذا ما لا يستطيع الهندى الأحمر تصوره، إذ أن كل اسم عنده لا بد من أن يرتبط بشئ مادى يستطيع رؤيته أو لمسه، أي أنه يرتبط بأجسام فيزيائية، فبدل أن يقول الهندى: "مرّ على الحادثة يومان" يقول: "تشرق الشمس للمرة الثالثة بعد الحادثة") (5).

          إنه فى السلوك البشرى يكون النظر قبل العمل أى أن ظاهر ما يحدث إنما هو ترجمة لما كان قد سبق وجوده فى الباطن، فإذا اعتبرنا اللغة هى الجانب الظاهر للتفكير الباطن فى دواخل الفرد – لأن بها يتم إظهار هذه الفكرة المعتملة فى الباطن – فإن لعلم النفس الصوفى تحليلاً يبيِّن هذا الرأى. فعند الصوفية يبدأ عمل القلب بخاطرة تهجم على القلب وهى – أى الخاطرة – حديث نفس ألهمت فجورها وتقواها. فعلى حد قول الإمام الغزالى: "فمبدأ الأفعال الخواطر (6). ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النِّيَّة، والنية تحرك الأعضاء" (7). وفى الحديث: "إن الله تجاوز لأمتى ما توسوس به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم به" (8).

          وقد تأثر علماء الغرب بهذه الفكرة الإسلامية للنية والقصد وبنوا عليها بعض فلسفات اللغة. فها هو المفكر جون سيرل يقول: "فى العادة تؤدى الحالة الشعورية، كالقصد أو الرغبة، وظيفتها عن طريق تمثيل نوع من الحدث الذى تسببه. على سبيل المثال، أريد أن أشرب الماء، ولذلك أشرب الماء. هنا يتم تمثيل النتيجة، التى هى شرب الماء، شعورياً بالسبب، الذى هو الرغبة فى شرب الماء. وأسمى هذا النوع من التسبب العقلى بـ(التسبب القصدى intentional causation)" (9)

          فها أنت ترى أن ما أفضى إلى القول والعمل كان فى البدء فكرةً فى القلب أو العقل.  وفى هذا المجال من التفكر روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعربوا القرءان والتمسوا غرائبه" (10). يعنى تدبر معانيه واستنباط بواطنه إذ بكلامه عز وجل عرفه أولياؤه. وقد قيل: (تكلموا تُعرفوا. فمن عرف معانى الكلام ووجوه الخطاب عرف به معانى الصفات وغرائب علوم أسماء الذات) (11). وفى نفس المعنى يقول اللغوى الفرنسى فردنان دى سوسور: "إن تفكيرنا من الناحية السايكلوجية – إذا أغفلنا التعبير عنه بالكلمات – ما هو إلّا كتلة غير متميزة لا شكل لها. وقد اتفق الفلاسفة وعلماء اللغة دائماً على أنه لولا الإشارات – يقصد إشارات لغوية – لما استطعنا أن نميز تمييزاً واضحـاً، ثابتاً بين فكرتين. فلولا اللغة لأصبحت الفكرة شيئاً مبهماً، غير واضح المعالم، إذ لا توجد أفكار يسبق اللغة وجودها، ولا تتميز هذه الأفكار قبل ظهور اللغة. فكل عنصر لغوى هو عضو أو (نطق  articulation) ثبتت فيه فكرة فى صوت، ويصبح الصوت علامة للفكر" (12).

          ويتضح أسبقية الفكر على العمل فى تأسيس الدول والجماعات. فإنه لكى تقيم دولة لها نظامها وحكمها ينبغى منطقياً أن يتم الاقتناع بهذه الدولة ومبادئها فكرياً فى أول الأمر قبل أن تنتقل هذه الدولة إلى عالم الواقع وحيز التنفيذ، بمعنى أن التطبيق العملى لا بد وأن يسبقه إيمان بالعقل والنظر قبل تحول هذه الأفكار إلى واقع عملى، وعلى هذا المنهج قامت الدولة الإسلامية فى عهد النبوة وصدر الإسلام، حيث سبقت التربية الروحية، وأتت ليس كما تأتى الفوقية السياسية، مما يؤكد ضرورة أسبقية التأسيس الفكرى.  

          سبق أن أشرنا إلى أن علماء النفس يؤكدون أن التفكير ما هو إلاّ لغة أو حديث غير مسموع يدور فى خلد الإنسان المفكر وفى روعه، مما حدا ببعض نقاد الأدب أن يتناولوا دراسة أىّ أديب من منظور التحليل النفسى من واقع لغة هذا الأديب موضوع الدراسة. وأبرز ما يمكن أن نستأنس به فى هذا المضمار هو تحليل الأستاذ عباس محمود العقاد لشخصية الشاعر ابن الرومى من داخل شعر الأخير. يقول العقاد: "..... ونحسب أن استقصاءه للمعانى الشعرية والإلحاح فى تفريعها وتقليب جوانبها إن هو إلاّ علامة خفيفة من علامات هذا الوسواس الذى لا يريح صاحبه ولا يزال يشككه ويتقاضاه التثبت والاستدراك، فيمعن ثم يمعن حتى لا يجد سبيلاً إلى الإمعان" (13). ويورد مثالاً لذلك الأبيات الشعرية التى تتحدث عن أحدب كان يضايق الشاعر ابن الرومى ويترصد له أمام داره ليتطير – أى ابن الرومى -  منه . يقول ابن الرومى فى وصف ذلك الرجل الأحدب (14):

فصرت أخادعه وطال قذاله         فكأنه متربص أن يُصْفَعا

وكأنما صُـفِـعَـتْ قـفاه  مـرة         وأحس ثانيةً لهـا فتجـمَّـع

أنظر كيف نسج الشاعر الصورة شكلاً وحركةً وهيئةً وطول تأمل فى ضم أجزاء الصورة بعضها إلى بعض حتى يكتمل التشبيه. وكل ذلك بفضل الإحساس النفسى العميق بما ارتسم من صورة داخل عقل الشاعر وبما امتلكه من سرعة تنقل الخواطر وتعاقب الآراء واستحضار المناسبات البعيدة والمشابهات الدقيقة التى يعز استكناهها على عقل وخيال السواد الأعظم من الناس. وهكذا تكون الصورة المرسومة بالكلمات هى نسخة من الصورة المرتسمة فى مخيلة الشاعر أو المفكر. وهنا تذوب الفوارق بين جميع أشكال التعبير ونجد الصورة بالفرشاة والألوان هى نفسها التى رسمها الشاعر بالكلمات وهى عينها التى شكلتها يد المهندس فى أشكال هندسية وربما استهوت الفكرة نفسها عالم الرياضيات فأخضعها لرموزه الحسابية. وحينئذٍ نعلم يقيناً أن لا فصل بين اللغة والتفكير. يقول البروفسور بالمر : "بما أننا نصوغ مقولات المواضيع لتجاربنا بمعاونة اللغة، يترتب على ذلك أن معرفتنا للعالم وتعلمنا اللغة أمران لا فصل بينهما، وعليه يصبح تحديد عالمنا خاضعاً – جزئياً – للغتنا ...... إن اللغة ليست فقط تعبيراً عن الأفكار ولكنها تشكل وتصنع الأفكار"، أى أنه يقول (15):

"Since we categorize the objects of our experience with the aid of language ، it may be the case that learning about the world and learning about language are activities that cannot be separated and that therefore our world is partly determined by our language.  Language does not merely voice ideas but that it is the shaper of  ideas." 

          إن الصلة بين اللغة والتفكير أوثق ما تكون عندما تتوحد المشاعر والأحاسيس وتتحد الأفكار حتى أننا لنجد تطابقاً فى بعض الكلمات بين اللغات المختلفة. وفى حقيقة الأمر فإننا نشاهد هذا الاتساق بين اللغة والفكر إذا ما أجلنا النظر فى -  مثلاً – (فعل الأمر imperative) فى كل من اللغتين العربية والإنجليزية. فنجد فى كليهما جملة الأمر تتألف من كلمة واحدة فقط. فنقول فى اللغة العربية: "إقرأ !" مثلما نقول فى الإنجليزية (Read !). هذا الخطاب الموجز يوحى - فى تقديرى - بالحاجة الماسة إلى سرعة الاتصال الذى كان ضرورياً فى بداية اتصال الإنسان بأخيه الإنسان؛ إذ كانت معظم أو أهم (الأغراض اللغوية  Language Functions) لهذا الاتصال فى بواكيره تشكل استغاثة الإنسان بأخيه، أو أمره له بالمساعدة، أو تنبيه له لكى يتجنب شرور وعوادى الطبيعة المحدقة به وهو يعيش حياة بدائية خالية من التحصينات. ولما كان هذا الوضع الطارئ يحتاج إلى سرعة الاتصال فقد كانت جملة الطلب (أو الأمر أو التحذير) مكونة من فعل واحد. هكذا توحد التفكير فتوحدت آلة التعبير.

          فاللغة البشرية وباعتبارها تفكيراً بشرياً كثيراً ما تتفق فى أساليب التعبير وتتفق فى  (وظائف الخطاب  address functions) مثل: (الأمر  order) ؛ (الرجاء  request)؛ (الاستئذان  permission)، وغيرها مما بسببه سُمِّىَ الإنسان مخلوقاً ناطقاً وبالتالى مفكراً. فمثلاً لدينا فى اللغة ما يسمى (الألغاز  riddles) والتى تعتبر من الألعاب الفكرية التى تشحذ الفكر وإعمال العقل. فمثلاً أنشد أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب (الأضداد) لأبى داؤود الأيادى:

ركـــب كــلـب رأيـتـه فى وثـاق         جُعِلَ الكلب للأمـير جمالا

ربّ ثور رأيته فى جحـر نمـــل         وقــطـاة تـحــمـل الأثـقـالا

والمعانى فى هذا اللغز هى: الكلب هو الحلقة التى تكون فى السيف؛ الثور هو ذكر النمل؛ القطاة هى مقعد الردف الخلفى على الدابة.

          أما الألغاز الإنجليزية فيمكن أن نمثل لها بالعبارة الاستفهامية التالية:

CH ، you are between them ، what are they ?

والإجابة هى أن حرفى CH نضع بينهما Uوتنطق youمع حرف Rالذى ينطق are. فظاهر الكلمات youareولكن حقيقتهما أنهما حرفا Uو Rفيكون لدينا الكلمة الإنجليزية: (CHURCH).

Once

a time

 

 

 


   والألغاز الإنجليزية قد تكتب أحياناً فى شكل صور ورموز إيضاحية يطلق عليها اسم: (Graphic English)، فالرسم التالى:

 

                    

يمكن قراءته فى العبارة: once upon a time.

        والإنجليز مولعون بهذا الفن اللغوى، فنجد عندهم ما يطلقون عليه: (المطرَّزة acrostic) وهو ترتيب لحروف الكلمات داخل المربعات لتقرأ كل كلمة دون أن تخل بتقاطعها مع الكلمة الأخرى، ومثاله كالآتى:

N

A

P

E

G

A

T

O

N

 

                  وهذا الفن الإنجليزى مقتبس من فن الشرق، حيث نجد الأوفاق (المربعات الرياضية)، مثل الآتى:

 

2

9

4

7

5

3

6

1

8

 

ولكن تتفوق العربية باتخاذها من الخط العربى وسيلة للزخرفة ولرسم مثل هذه الأشكال:

          كما أن لدى الإنجليز ما يسمى: (النمط أو الشكل الدال pattern poetry) وهو كتابة القصيدة فى شكل هندسى حيث تزداد الكلمات فى كل سطر، ثم تبدأ الكلمات فى التناقص، مما يعطى شكل متوازى الأضلاع أو الهرمين الملتصقين بالتعاكس، والشكل التالى يبين تلك الكتابة النمطية ذات الشكل الهندسى:

 

                                                               Who        

                                                             Are  you

                                                           Who  is  born

                                                        In  the  next   room

                                                     So   loud   to   my   own

                                                  That I  can  hear  the  womb

                                               Opening   and   the   dark    run

                                            Over the ghost and the dropped son

                                        Behind the wall thin as a wern's bone

                                            In the birth bloody room unknown

                                              To the burn  and  run  of  time

                                                  And the heart print of man

                                                     Bows     no      baptism

                                                        But   dark    alone

                                                           Blessing     on

                                                              The    wild

                                                                  Child  

            وتشترك معظم الأمم فى فنون اللغة البلاغية فينعكس هذا الفن فى تفكيرها اللغوى، وتفننها فى أساليب البلاغة – مثلاً – للشاعر القاضى أحمد بن محمد الأرجوانى بيت الشعر الذى يقرأ (مقلوباً وصحيحاً سواء)، أى من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين، والبيت هو :

 

"مودته تدوم لكل هول      وهل كل مودته تدوم" (16).

 

        ويحكى أن القاضى الفاضل (عبد الرحيم بن القاضى الأشرف على بن الحسين) لقى يوماً (العماد الأصفهانى - الكاتب)، وكان الأول راكباً فرسه، فقال له العماد:

 

        "سر فلا كبا بك الفرس"، فقال له القاضى:

 

      "دام علاء العماد".

 

 والعبارتان أعلاه هما مما يقرأ مقلوباً وصحيحاً سواء (17).

 

          ومن قبل ذلك نجد قوله تعالى:

          ﴿ربك فكبر﴾ (18).

          ونفس النمط من التفكير وأساليب البلاغة نجده فى اللغة الإنجليزية. فالعبارة الإنجليزية المترجمة عن نابليون الفرنسى – والتى تقرأ من الإتجاهين: اليمين والشمال. يقول فيها:

    ABLE  WAS  I  SAW  ELBA

 

          ومن الصور التى تبين اتساق التفكير البشرى ما نجده فى جمل (الالتباس البنيوى  structural ambiguity). فمثلاً عبارة: young boys and girls  يمكن أن تعنى: (boys and girls) young، أى "(young girls) and(young boys)"، أى س (ص  +  ع)  =  "(س ص ) + (س ع)"، كما يمكن لنفس الجملة الإنجليزية أن تفيد معنى  "andgirls(young boys)"، أى "(س ص) + ع". وللتفريق بين أيهما من الجملتين يريد المتحدث يقوم المتحدث بتغيير (نبرة أو نغمة الكلام  intonation) والوقوف عند كلمة بعينها. فإن وقف عند كلمة (young) دل على مقصده الجملة الأولى، أى (س ص) + (س ع)؛ وإن وقف عند كلمة (boys) دل على مقصده الجملة الثانية، أى (س ص) + ع. هذا للمستمع، ولكن ماذا عن القارئ؟ كيف يعرف القارئ التفريق بين الجملتين؟ فالقارئ يعرف ذلك بـ (الكتابة الخطية المائلة الحروف  italics) للكلمة المراد الوقوف عندها والتركيز عليها.

          وفى اللغة العربية نجد ما يشبه الجملة الإنجليزية أعلاه من حيث (الالتباس البنيوى structural ambiguity)، فمثلاً قولنا: (حُفَرُ قواعدِ المبانى الجديدة)؛ هل كلمة: (الجديدة) صفة للحفر أم للقواعد أم للمبانى؟ غير أن الإلتباس فى الجملة العربية لا يشكل خللاً فى المعنى كالخلل الذي نلمسه فى الجملة الإنجليزية، وذلك لأنه إن رفعت كلمة (الجديدة) كانت صفة للحفر وكانت الحفر هى الجديدة فتكون القواعد أو المبانى جديدة وقائمة على حفر جديدة، وإن كانت كلمة (الجديدة) مجرورة  تكون صفة للقواعد أو للمبانى. فإلى أىّ إعراب ذهبت الصفة (جديدة) لا يختلف المعنى الكلى للجملة. غير أنه فى الجملة العربية لا يحدث أىّ تغيير فى نبرة صوت المتحدث لكى نجد الفرق، ولأن المعنى هنا – بدون تشكيل أواخر الكلمات - لا يحدث فيه تغيير كلى فقد تُرِك تحديد المعنى لحدس المستمع أو القارئ. فكما عدّ ابن جنى الحذف والإيجاز فى اللغة العربية من باب شجاعة هذه اللغة العربية، فإنا نعد هذا الالتباس البنيوى من باب شجاعة اللغة العربية لأنه ينمى فى الناطق بها قوة الحدس والتنبؤ واستنباط المعانى.

          إن هذا التوحد فى أساليب التفكير اللغوى بين البشر – وإن تباينت بعض المعانى اللغوية - هو الذى دفع علماء اللغة الغربيين إلى أن يرجحوا صحة أحد الاحتمالات التالية التى تفسر هذا التوحد اللغوى (19):

          أ- تركيبة العقل البشرى واحدة فى أساسها.

          ب- لغات العالم كلها لها مصدر ومنبع واحد.

          جـ- الحاجات الثقافية للعالم متماثلة.

      وتحت ما يسمى (عالميات اللغة Language Universals) كتب بعض اللغويون عن تشابه اللغات ما يلى (20):

" Similarities between languages can have a number of different origins. In the simplest case, universal properties may be due to universal aspects of human experience. For example, all humans experience water, and all human languages have a word for water. Other similarities may be due to common descent: the Latin language spoken by the Ancient Romans developed into Spanish in Spain and Italian in Italy; similarities between Spanish and Italian are thus in many cases due to both being descended from Latin. In other cases,Language contact or contact between languages; particularly where many speakers are bilingual can lead to much borrowing of structures, as well as words. Similarity may also, of course, be due to coincidence. English ''much'' and Spanish ''mucho'' are not descended from the same form or borrowed from one language to the other; ''Much'' is from Middle English ''muchel'', which is from Proto-Germanic ''mekilaz'' while ''mucho'' is from Latin ''multus'' - nor is the similarity due to innate linguistic knowledge".

                                              

          ويفيد النص الإنجليزى أعلاه – بحسب ما لخصناه من نقاط تحتها خطوط -  على أن التشابه فى اللغات مرده إلى: التشابه فى التجارب البشرية؛ واللغة الأولى التى انحدرت منها لغة اليوم؛ الاتصال بين اللغات؛ والمصادفة. ولا ينبع تشابه اللغات من المعرفة الطبيعية والفطرية للغة.

          فإن عدنا إلى التحليل الرياضى - مثلاً - (س ص) + ع) الذى يحلل به تشومسكى البنية السطحية والبنية العميقة للجملة أدركنا فتح اللغويين الباب على مصراعيه للمشتغلين بالمنطق الرياضى ليسهموا فى صياغة النظم اللغوية المنهجية، وبهذا يتوسع نطاق ما يسمى بـ (اللغويات الرياضية Mathematical Linguistics).

          وبما أن اللغة وعاء للمعانى وخادمة للإنسان فى مجال الاتصال فإنها تدور مع حياة الإنسان صعوداً أو هبوطاً فى سلم الحضارة. وإن ما يطرأ على الإنسان من تغيرات فى تفكيره - بسبب تغير بيئته الجغرافية أو عاداته - يؤثر بدوره على اللغة إن سلباً أم إيجاباً. فإنه بقدر ما تكون الأفكار والاحتياجات بسيطة وبدائية تنعكس هذه البساطة على اللغة من حيث قلة المفردات وسذاجة التراكيب والقواعد، وربما عشوائية النظم. وليس أدل على ذلك من لغة الطفل التى ينقصها ضبط المفردات وقواعد تركيب الجملة وربط الجمل بعلاقاتها. فمثلاً إن وجهت لطفلٍ هذا السؤال: (أين ذهب أبوك؟)، أجابك هذا الطفل بقوله: (أبى ذهب. أبى ذهب إلى المكان الذى يباع فيه الخضار. أبى ذهب يشترى لنا خضروات من ذلك المكان). وسبب هذه الثرثرة من الطفل هى قلة المفردات عنده وعدم إلمامه بعلاقات الجمل والتفكير. فكان يمكن لهذا الطفل أن يقول : أبى ذهب إلى السوق ليشترى لنا خضروات (21).

          وفى ذات السياق يقول المفكر جون سيرل : "يمكن للأطفال فى مرحلة ما قبل اللغة أن يمتلكوا أشكالاً بدائية من (القصدية  intentionality). يمكن لهم أن يكونوا الاعتقادات والرغبات والادراكات والمقاصد. ولكن ما أن يبدأ الطفل باكتساب اللغة، حتى تزداد قدرات القصدية المتزايدة من فهم اللغة، مما يفضى إلى زيادة أكبر فى القصدية. ويوضح أى كتاب مقرر عن التطور النفسى-اللغوى لدى الطفل هذه الظاهرة. وما لدينا، فى حقيقة الأمر، ليس عقلاً من جهة، ولغة من جهة أخرى، بل عقل ولغة يثرى كل منهما الآخر، حتى يتم بناء العقل لغوياً لدى الكائنات الإنسانية البالغة" (22)، ولهذا دائماً ما يُنْصَحُ طالبُ اللغة بمجالسة أهل هذه اللغة ليأخذ عنهم الفكر واللغة معاً، وإن لم يجالسهم فليتعرض للغة من خلال قراءة كتب المكتبة والمجلات والجرائد المكتوبة بهذه اللغة، وأن يتعرض للغة بالاستماع للأفلام والمسرحيات والندوات والبث التلفازى والإذاعى باللغة المراد تعلمها، وهذا ما يسميه علماء اللغة والمشتغلون بتدريسها (التعرض للغة language exposure ).

          ولكن ما أن يتعقد المجتمع البشرى وتتشعب حاجاته الفردية والاجتماعية إلّا وتدور عجلة اللغة على نفس المحور المعقد والمتشابك الأجزاء. ولذات السبب من التعقيد والتفرع، وعلى منوال المنهج المعقد الذى اجتاح الحياة، بما فيها ضروب المعرفة اللغوية المختلفة فقد امتدت الدراسات اللغوية لكى تقتحم ميادين المعرفة المتنوعة التى تتناول اللغة نفسها؛ وبدأ الكلام يتكلم عن نفسه، ويدرس نفسه. فنشأ ما يسمى (علم الألسنية الاجتماعى  Socio-Linguistics) و (علم الألسنية النفسى  Psycho-Linguistics) و (علم  الألسنية التطبيقى  Applied Linguistics). ولملاحقة هذا التطور اللغوى ودراسته عبر التاريخ واستكناه جوانب الإزاحة والتغير فى اللغة فقد اهتم (علم اللغة التاريخى Diachronic Linguistics) بدراسة وتتبع العلاقات بين عناصر اللغة المتعاقبة والتى يحل كل عنصر فيها محل العنصر الآخر بمرور الزمن، كتغير الأصوات واستبدال دلالات الكلمات، مما يؤكد حيوية اللغة وخضوعها لعوامل التغير والتطور. بل تفرعت اللغة إلى مباحث وفروع كثيرة، حيث انفرد كل فرع منها بالبحث فى نطاق قلما يتعداه إلى الفروع الأخرى إلّا لماماً، فمثلاً نجد (علم دراسة اللهجات  Dialectology) الذى ينظر فى التغيرات والإنحرافات اللغوية الطفيفة داخل اللهجات المختلفة للغة الواحدة، وعلم (البنية، أى  الصرف Morphology) الذى يتناول بنية الكلمة واشتقاقها اللغوى وتغير أبنيتها، ثم هنالك علم (البلاغة أو الأسلوب  Stylistics) والذى يدرس تأدية المعنى بعبارة فصيحة وذات أثر خلاب فى النفس مع ملاءمة المقال لمقتضى الحال، و(علم أصل الكلمة  Etymology) الذى يبحث فى الأصل التاريخى لمبنى ومعنى الكلمة. وأخذ الاهتمام بالمفردة اللغوية ومعناها يتزايد، وتأسس على هذا الاهتمام بالمفردة علم (المفردات  Lexicology) الذى يشكل علم القواميس أو المعاجم أهم أفراده. إن امتداد المعرفة وتفرعها قد زاد من تنوع القواميس بحسب التخصصات المتنوعة وبحسب مجالات الدراسة، فنجد – مثلاً – قاموس (المصطلحات الطبية medical terms)، وقاموس (المصطلحات السياسية political terms)، وقاموس (المصطلحات الاقتصادية economical terms)، وقاموس (المصطلحات القانونية legal terms)، وقاموس (مصطلحات علم الاجتماع sociological terms)، وقاموس (مصطلحات علم النفس psychological terms)، وقاموس (مصطلحات علم الجغرافيا والكونيات geographical and cosmic terms)، وقاموس (مصطلحات الأدب literary terms)، وقاموس (مصطلحات التصوف sufi terms)، وقاموس (علم اللغويات linguistic terms)، وما إلى ذلك من قواميس. وكل هذه القواميس بكثرتها تبرهن على تشعب المعرفة الذى بدوره يلقى على عاتق اللغة مسؤولية مواكبة هذا التطور العلمى والاستعداد له بإحتضانها التعابير الجديدة، أو تلك التعابير التى على اللغة أن تصنعها خصيصاً لهذه المادة أو لتلك. هذا بالإضافة إلى علم (قواعد التنظيم – أى النحو - Syntax) وهوعلم تركيب وبناء الجملة وتحديد مواقع الكلمات داخل الجملة. ولهذا فالعالم الباحث فى أى مجال من مجالات المعرفة لا بد له من الإلمام باللغة التى يجرى بها بحثه العلمى، وذلك لكى يتمكن من فهم ما يأخذه لبحثه باللغة المعنية مناط البحث، ولكى يصوغ أفكاره صياغةً يقدر عن طريقها على إفهام القارئ أو السامع الأفكار التى وردت فى بحثه أو دراسته.

          إن ارتباط اللغة بالتفكير يشمل جميع النواحى البشرية، من أدبية وفلسفية واجتماعية وقانونية واقتصادية وسياسية، وغيرها من النشاطات الفكرية التى تتخذ اللغة بمثابة قوالب للتفكير، وتلعب فيها اللغة دور الوسيط الحامل لهذه الأفكار والمعانى.

          ولكن هذا الارتباط أوضح ما يكون فى المعتقد الدينى للمجموعات البشرية، لأن الاعتقادات تشكل التفكير الصارم الذى يلتزم به المجتمع الدينى المعين، ويتعامل بمقتضاه أفراد هذا المجتمع ومعتنقو هذه الديانة أو تلك. وللحفاظ على ديانة الآباء تظل هذه المعتقدات والأفكار بمصطلحاتها ولغتها، تتوارث جيلاً بعد جيل، دون أن يطرأ عليها تعديل يخل بمعانيها الأساسية. واللغة بطبعها لا تتغير كلها فجأة، وإلّا لفقدت خاصية الوسيلة التواصلية، حيث يكون مَنْ عرف حديث اليوم غير قادر على معرفة حديث الأمس ولا حديث الغد؛ وبذلك تفتقد الأجيال تواصلها، ويتعذر نقل المعرفة والحضارات عبر الأجيال والأمم. ولكن اللغة تتغير حتماً. غير أنه تغير تدريجى فلا يتم بقفزات وطفرات فجائية، ولهذا توجد للكلمات جذور أصلية وفروع اشتقاقية. وهذا التغير اللغوى نجده فى جوانب كثيرة من المعرفة. ونحن هنا نأخذ - كمثال للتغير فى اللغة- أسماء أيام الأسبوع باللغة الإنجليزية والتى لها خلفيات تاريخية وثنية مستقاة من ثقافة الإنجليز وتراثهم السكسونى، وقد لحقها اليسير من تعديل الحروف أو الأصوات، وذلك بعد أن أدخل عليها الإنجليز تعديلات طفيفة قد لا تكون بسبب تغيير العبادة أو المفهوم الدينى لدى الإنجليز، بل ربما تكون بسبب تغير (النظام الصوتى phonetic system) للشعب الإنجليزى. والجدول التالى الذى يرد عقب هذه الفقرة، والذى يُقرأ بالإنجليزية – من الشمال إلى اليمين – يوضح لنا معانى هذه الأسماء وأصولها التاريخية وتغيراتها المستحدثة التى أدخلت عليها عبر الزمن: (23). فالكلمة الإنجليزية فى الجدول قد نشأت من اللغة السكسونية، كما هو واضح من تشابه الحروف والمعانى التى ترجمناها إلى اللغة العربية.

أنظر الجدول أدناه:

 

نوع العبادة

مقطع الكلمة الأولى

أو ما حرفت منه

Saxon

الكلمةالسكسونية

English

الكلمةالإنجليزية

آلهة الإنجاب أو عبادة الشمس

( ينجب) sund

( الشمس ) sun

Sund'sdag

Sunday

الأحد

عبادة القمر

( القمر) moon

Monandag

 Monday

الأثنين

إله الحرب

( حرب) Tiw= war

Tiw

Tuesday

الثلاثاء

عبادة الشجر

( خشب/غابة) wood

Woden

Wednesday

الأربعاء

عبادة الرعد والصاعقة

( الرعد) thunder

Punresdag = thunner

Thursday

الخميس

إله الصداقة والحب

( صديق) friend

( حب ) love

Frigedag

Friday

الجمعة

عبادة كوكب زحل

( زحل) saturn

Saterdag

Saturday

السبت

 

 

          ونفس النهج من الاشتقاقات الوثنية نجده فى الشهور الإنجليزية. فعلى سبيل المثال – لا الحصر – نلاحظ اشتقاقات الشهور التالية :

1- شهر يناير (January) وهو مشتق من (Janus) وهو إله البدايات.

2- شهر فبراير (February)، ويقول أهله إن فى هذا الشهر تقام مائدة الطهر والنقاء (Februa = feast of purification )، وأحياناً يطلق عليه شهر القداسة أو شهر الأعمال المقدسة (month of expiation i.e. Holy deeds).

3- شهر مارس (March)، وهو مشتق من كلمة : (Mars) وهى تعنى (إله الحرب God of war).

4- شهر مايو (May) وهو شهر النماء ومشتق من (Maia) وهى آلهة رومانية.

5- شهر يونيو (June) وهو مشتق من (Juno) وهى آلهة الزواج عند الرومان.

6- شهر أغسطس (August) وهذه الكلمة مشتقة من (Auger) وهى روحانية التنبؤ.

          وقد ترجم العرب هذه الشهور الأفرنجية محتفظين لها بسحنتها الإنجليزية فقالوا: يناير، فبراير، مارس، ..... اكتوبر،.... الخ. وذلك لأنها ليست لها اشتقاقات عربية – فلم نجد فبرر من فبراير ولا كتبر من اكتوبر – ولذلك فهى لا تعنى للعرب أى مضامين وثنية عربية سوى أنها مترجمة حرفياً من الإنجليزية.

          أما إذا اتجهنا إلى الشهور العربية فلا نجد فيها أية مضامين وثنية؛ فالعرب كانوا أهل فطرة سليمة وجاءهم الإسلام بدين الفطرة السليمة، لأن ما كانوا عليه من وثنية إنما هو شئ طارئ عليهم ولهذا سرعان ما دخلوا فى دين الله أفواجاً. نقول إن الشهور العربية لها من المعانى والاشتقاقات العربية ما يمت إلى معاشهم العادي وممارساتهم الحياتية – لا الوثنية ولا تحريفات الأديان السماوية التى دان بعضهم بها (فبعضهم كان مسيحى الديانة وبعضهم كان يدين باليهودية). فشهر المحرم سمى محرماً لأنهم كانوا يحرمون فيه القتال؛ صفر لأنهم كانوا يصابون فيه بمرض يصفر ألوانهم؛ ربيع الأول وربيع الثانى لأنهما يأتيان فى الخريف والعرب تسمى الخريف ربيعاً، ومنه الحديث الشريف: "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطاً أو يُلِمُّ" (24) ، والحبط هو انتفاخ البطن من الإمتلاء والتخمة، ويلم يقرب من القتل؛ جمادى الأولى وجمادى الثانية لجمود الماء فيهما شتاءً؛ رجب لأنهم يعظمون فيه القتال فيقال فيه أرجبوا أى كفوا عن القتال؛ شعبان لانشعاب القبائل فيه لطلب الماء والغارات؛ رمضان لإتيانه فى الحر والرمضاء، أى أوان الرمض؛ شوال لقولهم شولوا أى ارتحلوا أو لأن الإبل كانت تشول فيه بأذنابها لشهوة الضراب؛ ذو القعدة لقعودهم عن القتال؛ وذو الحجة لأدائهم الحج فيه (25).

          وهذا الاختلاف فى التفكير والألسن ينتج عنه التباين فى وجهات النظر وتناول الأمور عقلياً وعاطفياً. وسوف يجد القارئ فى الأبواب القادمة من هذا الكتاب أن ظاهرة الاشتقاق تغير المعنى وتوسعه. فمثلاً كلمة "زكاة" والتى تعنى مبلغاً من المال يؤخذ من الغنى ويعطى للفقير كفريضة إسلامية أيضاً تفيد معنى التزكية والنظافة لأنها تطهر المال وتزكى صاحبه وتنظف روحه من دنس الأطماع والحرص على اكتناز المال، كما تفيد معنى الزيادة لأن الزكاة تنمى المال وتورثه البركة؛ وإن كانت "صدقة" فهى تورث معطيها صدق التوجه فى الجهاد بالمال؛ وهذه كلها معانى روحية تقرب الكلمة من المفهوم الدينى للزكاة أكثر من المفهوم الذى نجده فى الكلمات الإنجليزية "charity" أو "benefaction" والتى هى كلمات جامدة لا يشتق منها المفاهيم العربية. وشيئاً فشيئاً عبر هذا الكتاب يتبين لنا اتساع الشقة بين التعبيرين والتفكيرين العربى والإنجليزى، وعجز اللغة الإنجليزية عن مضاهاة العربية فى نقل المفاهيم القرءانية. 

          نستخلص مما تقدم أن اللغة سلوك لفظى (Verbal Behaviour)  أى ترجمة كلامية للسلوك العملى، كما أنها رسم لفظى للأفكار والنظريات. ونجد (فتجنشتاين) "من ضمن القائلين بانصهار اللغة بالفكر، أى أن الفكر ليس مستقلاً عن اللغة، وينتج من هذا أن أية فكرة يمكن أن توضع فى كلمات، والفكرة التى لا يمكن أن توضع فى كلمات هى ليست فكرة مطلقاً" (26). وقال عالم اللغة الفرنسى (سابير): "اللغة جديرة بالدراسة لأنها غير معهودة عند غير البشر ولا غنى عنها للفكر البشرى" (27). وبذلك يستبين ارتباط اللغة بتفكير الإنسان وسلوكه وأحاسيسه، الأمر الذى يجعل البحث فى لغة قوم ما يكاد يكون سياحة فى تراث وأفكار وعواطف ومشاعر هؤلاء القوم من واقع لغتهم.  

          تحدثنا عن أن اللغة وعاء للفكر البشرى، ولكن لا ينبغى أن نغفل جانب العاطفة. ركزنا على العقل لأننا رأينا البشر قد اتفقوا فى أساسيات التصرف العقلانى مثل الاهتمام بالعلم والتعلم والصحة وممارسات التجارة وغيرها من النشاطات الاجتماعية التى يتفق كل الناس فى أهميتها، وبذلك اتفقوا – إلى حدٍ ما -  فى منهج التفكير فيها. ونقول العاطفة لأننا رأينا البشر قد اختلفوا فى طريقة التعبير عن عواطفهم ولهذا تباينت فنونهم من غناء ورقص وموسيقى وشعر ونحت وتصوير وتمثيل ورسم وسائر الفنون الأخرى. وقديماً قيل: (الفن أنا والعلم نحن) وذلك لأن الفن ينزع للذاتية، ونرى فيه اختلاف الآراء الذى قيل فيه: (لولا اختلاف الآراء لبارت السلع)؛ بينما العلم له قوانين عقلية ومنطقية يخضع لها الكل. فالعلم عقلانى بينما الفن قلبى، وكثيراً ما يفترقان فى المفاهيم، ولذلك يقول المثل الغربى : "إن للقلب أسبابه التى لا يعرفها العقل". ونسبة لذاتية الفن فإن اللغة تتعقد أكثر مما لوكانت آلةً للفكر وتبقى اللغة - وهى تعبر عن الفن - أكثر غرابة بين مختلف الشعوب. فاللغة وعاء للفكر كما أنها وعاء للفن؛ وقلنا إن الفكر مركزه العقل بينما الفن مركزه القلب الذى يرى بنور البصيرة. ومثلما يُخاطب العقل فكذلك تُخاطب البصيرة فمن: }كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد{(28) استجاب لنداء الإيمان بالله تعالى.  ولما كان الخطاب الربانى موجه لعقل الإنسان وقلبه فقد انصب جل الحديث فى هذا الباب عن ارتباط اللغة بالعقل والتفكير، ولم نغفل جانب الفن والقلب. فسوف يجد القارئ الكثير من الحديث عن ارتباط اللغة بالقلب والإيمان. فالعقل منوط بمسؤولية اهتدائه للإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتمكم عقلاً أشدكم خوفاً" (29). وللقلب – كذلك - نصيب وافر من الهداية للإيمان، قال تعالى: }فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور{(30).  فإذا اتحد نور العقل مع نور القلب كَمُل الإيمان، وذلك باتفاق الرؤيا القلبية مع رؤية العين. قال تعالى:  }ماكذب الفؤاد ما رأى{(31). ولهذا جعل الله تعالى فى لغة البشر من المعانى ما يقود إلى الإيمان بالله عز وجل، ويهدى القلب المستشرف للإيمان. وبهذا تكون اللغة وعاءً للفكر والفن والإيمان. وهذا ما سوف نتناوله بشئ من البسط والتفصيل فى الباب القادم إن شاء الله تعالى.

 

 

هوامش:

 

 1- الجرجانى (عبد القاهر أبو بكر عبد الرحمن بن محمد): دلائل الإعجاز، ص 61.

 2- المصدر السابق، ص 280. إن دراسة الألفاظ من واقع وجودها فى نصوها تكلم عنها الجرجانى فى القرن الخامس الهجرى، ويتحدث عنها الآن (فى القرن العشرين) علماء الإنجليز تحت عنوان: (الدلالة القرينية contextualization).

3- p 2.,Radford (Andrew) & Others: Linguistics

4- زكريا (دكتور ميشال): الألسنية – علم اللغة الحديث – المبادئ والأعلام، ص 45.

5-  القضمانى (د. رضوان): علم اللسان، ص 65.

6- وقد يكون مبدأ الكلام صور تنسج من الأحلام ولاسيما إن كان وقع الكلام والخطاب قوياً على الروح والعقل فلا مندوحة من أن يلطف فى المنام، كما حدث فى بداية الوحى لرسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء فى حديث السيدة عائشة رضى الله عنها: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح" – أنظر البيهقى (أبوبكر أحمد ابن الحسين بن على بن عبدالله بن موسى): دلائل النبوة، ج 1، ص 293.

7- الغزالى (الإمام أبو حامد محمد بن محمد):  إحياء علوم الدين،  ج 8، ص 47.

8- ابن ماجة (الحافظ أبو عبدالله محمد بن يزيد القزوينى): سنن ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسى، ج 1، ص 659، حديث رقم 2043.

9- سيرل (جون): العقل واللغة والمجتمع، ص 101.

10- الهيثمى (الحافظ نور الدين على بن أبى بكر بن سليمان): مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، كتاب التفسير، باب منه فى فضل القرءان ومن قرأه، ج 7، ص 244، حديث رقم 11657.

11- أبو طالب المكى (محمد بن على بن عطية الحارثى):  قوت القلوب فى معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، ج 1، ص 253.

12- سوسر (فردنان دى): علم اللغة العام، ترجمة د. يونيل يوسف عزيز، الفصل الرابع، القيمة اللغوية، ص 131.

13- العقاد (عباس مصطفى محمود): ابن الرومى – حياته من شعره، ص 110.

14- نفس المصدر السابق، ص 116.

15-  Palmer (F. R.) : Semantics ،Context and Reference ،p 44 .

16- الدميرى (الشيخ كمال الدين): حياة الحيوان الكبرى، ج 2، ص 62، نقلاً عن "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان": لابن خلكان.

17- ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد بن أبى بكر): وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج 5، ص 150.

        في سنة 1984م كنت معلماً للغلة الإنجليزية في اليمن، مدينة تعز. عملت نموذجاً للمجلة الإنجليزية يحتذيه الطلاب، وسميته هذه المجلة (تعزيات) بحكم أنها تحوي مواضيع شتى عن مدينة (تعز) فقط، وكانت التسمية بالطبع بالإنجليزية كما يلى (TAIZIAT) وهي مما يقرأ مقلوباً وصحيحاً سواء.

18-  المدثر: 3.

19- ترجمة المؤلف عن: Palmer (F.R.): Semantics, p 115    

20- From Wikipedia،the free encyclopedia

21- هذه الجملة مختصرة ومربوطة بعلاقة الغرض والرابط (لام التعليل فى "ليشتري")،  كما أن لفظة (السوق) هى مفردة غنية المعنى اختصرت عبارة (المكان الذى يباع فيه الخضار).

22- سيرل (جون): العقل واللغة والمجتمع، 222.

 

23-  Skeat (Walter W): The Concise Dictionary of English Etymology,pp 163-555

24- البخارى (الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل) صحيح البخارى، الرقاق 81 كتاب، 7 باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ص 1358، حديث رقم 6427.

25- وافى (د. على عبد الواحد): فقه اللغة، ص 121.

26- مجهول (د. فيصل غازى): تحليل اللغة فى رسالة فتجنشتاين المنطقية الفلسفية، ص 54.

27- ليونز (جون): نعوم تشومسكى، ترجمة د. بابكر عمر عبد الماجد، ص 112.

28- ق: 37.

29- العراقى (الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبى بكر): المغنى عن الأسفار فى الأسفار فى تخريج ما فى الإحياء من الأخبار، مطبوع على هامش إحياء علوم الدين للإمام الغزالى، ج 1، ص 144.

30- الحج: 46.

31- النجم: 11.

                                                                        وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم