موسيقى الكلمات وكلمات الموسيقى في اللغة العربية

كتب بواسطة: Super User. Posted in فنون

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

موسيقى الكلمات وكلمات الموسيقى في اللغة العربية

      للكلمة جرس الموسيقى الذي تهتز له القلوب، وللموسيقى نفث الكلمة التي تطرب لها الروح؛ فالعلاقة وثيقة بين الكلمة الملفوظة والموسيقى المعزوفة. ونحن في هذا المقال نتناول العلاقة بين الكلمة والموسيقى، مع التركيز على القرءان الكريم بلغته العربية التي أنزل بها.

      لقد لاحظ مختصو اللغة ومختصو الموسيقى أن اللغة عموماً غنية بالأصوات المنغمة والنبرات الموسيقية، الأمر الذى خلق تقابلاً بين صوت الحرف ومعناه في الفكر، وصوت الحرف ومؤداه في النفس. ففي اللغة العربية نجد أن عبقري اللغة العربية عثمان بن جني قد عقد فصلاً في كتابه: "الخصائص"، أبان في كتابه هذا ما سمَّاه: (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، أي تجاور أو تقابل صفة الصوت (الحرف) مع صفة الحدث (المعنى). فالحرف إن لم يدل دلالة واضحة على المعنى، فهو يدل دلالة اتجاه، ويثير في النفس جواً يهيئ لقبول هذا المعنى ويوجه إليه ويوحي به.

      ولتأكيد معنى (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) وتناغم الصوت مع حروف الكلمة أنظر قول الشاعر البحتري في وصفه الذئب عندما يكون جائعاً. تتحرك أمعاء هذا الذئب طلباً للأكل والتهام فريسته، وتحدث هذه الأمعاء صوتاً أوجد الشاعر له كلمات تحاكيه. وبيت الشعر كما يلي:  

                          يقضقض (1) عصلاً (2) في أسرتها (3) الردى (4)

                                                         كقضقضة المقـرور (5) أرعده البرد

فتكرار حرفى القاف والراء في بيت الشعر يوحي بضراوة الذئب وارتجافه وتحرك أعضائه للافتراس.

      يورد الكاتب العربي زكي الأرسوزي تعليقاً قيماً في هذا الشأن، فهو يقول: "إن الكلمات العربية ذات أصول في الطبيعة، وإن مبدأ الصحة فيها قد تعين من قبل الفطرة، لا من قبل العرف والعادة (الوضع البشري)، وإن العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست هي بالعلاقة الاصطلاحية فقط، بمعنى أن اللفظة تشير إلى معناها فقط. بيد أن اللسان العربي ذو بنيان عضوي تنم فيه الكلمة عن المعنى، وتوحي به إيحاءً، حتى أن اتجاه المعنى هو الاتجاه المتغلب على اللفظة، مما يجعل صاحبه أكثر استعداداً من غيره لفهم الأخلاق والديانة" (6).

      ومن أهم المستحدثات الإسلامية على اللغة العربية هو إيجاد ما يعرف بعلم التجويد. والتجويد لغةً هو التحسين والإجادة، واصطلاحاً هو إعطاء كل حرف حقه ومستحقه، وإخراج كل حرف من مخرجه على وجه يمكِّن قارئ القرءان الكريم من النطق السليم بحروف الآيات وكلماتها، وذلك بهدف ترتيل القرءان الكريم. فعلم التجويد هذا إنما هو علم مجاله القرءان الكريم. وعلى هذا الأساس يصبح التجويد علماً استحدث بنزول القرءان الكريم وبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن معلوماً من قبل بصورته الحالية، ولا هو الآن يستخدم في حديثنا العادي ولا في الخطابة والنثر مهما بلغت فصاحة الخطابة والنثر.

      لقد بُنِيَ علم التجويد على حركات الإعراب ومخارج الحروف العربية وصفاتها مما لا تجد له مثيلاً في اللغات الأخرى. فبالإضافة إلى الفتحة والضمة والكسرة نجد التنوين الذي يتعدد ليغطي تنوين التمكين للاسم، تنوين التنكير للمبني، تنوين العوض (7)،وهذا الأخير يمكن أن نمثل له بقوله تعالى: (وأنتم حينئذٍ تنظرون) الواقعة، 84.

وهنالك تنوين الترنم، وهو الذي يلحق القوافي المطلقة بحرف علة، كقول الشاعر جرير (8):

أقلِّي اللوم – عاذلَ – والعتابَنْ        وقولي - إن أصبتُ – لقد أصابَنْ

وتنوين الترنم كما هو في بيت الشعر السابق يختص بالشعر، ولذلك لا نجده في القرءان الكريم.

 

      كما نجد المد بأنواعه. والمد هو إطالة الصوت بما يشكل إعلاءً وتمديداً للنغمة فيخلق زمناً موسيقياً فريداً. فمثلاً هنالك المد الموجود في قوله تعالى: (ولا الضالين)الفاتحة، 7.

    هذا بخلاف أحكام النون الساكنة والتفخيم والترقيق والإدغام والغنة(9)وغيرها من أحكام التجويد التي أغلبها أصوات عربية محضة.

      إن علم التجويد قد وفر للكلمة العربية الأنغام الموسيقية اللفظية التي تتنوع فيها مخارج الحروف، فتجئ الآية نغماً شجياً ينسكب في الوجدان، ويستثير العاطفة نحو الإيمان. فإن علم التجويد قد أظهر ما في القرءان الكريم من موسيقى لا نجد لها رصيفة في أىّ جنس من أجناس الخطاب البشري الأدبي العادي ( مثل القصة، الرواية، الخطابة، المقالة، المسرحية، ...... الخ ) . فإن تحسين الصوت للقرءان الكريم أمر حضت عليه السنة النبوية الشريفة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسنوا القرءان بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرءان حسناً" (10). كما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داؤود" (11). وأصل الزمر الغناء، فالمراد بالمزمار الصوت الحسن. والتصويت الحسن للقرءان الكريم يجئ على نسق لحون العرب من مدّ، وغنّة، وإدغام، وإخفاء، وإظهار، وإقلاب، وتفخيم، وترقيق، وما إلى ذلك من أحكام تجويد تلاوة القرءان الكريم. ولا يظن عاقل أن التغني بالقرءان الكريم يعني قراءته بلحون الآلات الوترية ومعازف اليهود والنصارى والكفار.

      إن القرءان الكريم يحمل في داخله التنغيم الخاص به، والذى يهيئ للقارئ تعديل درجة صوته عند النطق بالكلمات والمقاطع، فتعلو نغمة القارئ وتهبط حسبما قيل له في الحديث السابق: "حسنوا القرءان بأصواتكم" وفي رواية أخرى: "زينوا أصواتكم بالقرءان" (12). وذلك لأن حسن الصوت مع تتبع موسيقى القرءان الكريم هما أمران تبادليان؛ حيث يجد القارئ أحسن النبرات الصوتية في آيات القرءان الكريم، كما يجد القرءان الكريم حلاوة النغم وطلاوته في صوت القارئ البارع الذي يعطي كل حرف حقه من مخرجه متصفاً بصفاته الذاتية، ومستحقه من صفات الترقيق وغيرها من الصفات العارضة الناشئة عن الصفات اللازمة، وتحبيره من طرق القراءة المجودة والتفنن والإتقان في التلاوة.

          إن القرءان الكريم كله حلو التنغيم شجي العبارة رقيق الكلمة التى تقشعر منها أبدان الذين آمنوا ثم تلين جلودهم. ونحن هنا في حديثنا عن موسيقى القرءان الكريم يطيب لنا أيضاً أن نتناول لونين من التنغيم والأوزان هما: فواصل الآيات، والكتابة الصوتية.

أ- فواصل الآيات:

          نقصد بفواصل الآيات تلك الكلمات المتشابهة الأصوات والتي تختم بها الآيات، أي آخر كلمةٍ أو تعبيرٍ في كل آية. إن فواصل الآيات ذات قيمة عالية في تكملة معنى الآية، ولهذا اختلفت خواتم الآيات من: رؤف رحيم، شديد العقاب، لطيف خبير، عزيز حكيم، وغيرها من الفواصل ذات المغذى المتضمن فى كل آية.

          ولكن يهمنا هنا الجانب الموسيقي الإيقاعي للفواصل. فالفاصلة هي من أميز مميزات الآية القرءانية. إن الفواصل لها أثرها الموسيقي المعتبر في نظم الكلام ووفرة النغم، ولعل هذا الحس الموسيقى بشتى إيقاعه هو الذي يقترب بالفاصلة من الشعر والقافية، وما الفاصلة من ذلك في شئ، وما لها من الشعر إلاّ موسيقاها التي انفردت بها وحدها. ولا تلتزم هذه الفواصل التزام قافية القصيدة بحروف الروي. بل إنها تتنوع تنوعاً يكسبها روعة الموسيقى بانغامها المتعددة. فنجد الفاصلتين متساويتين في الوزن دون القافية، كما في قوله تعالى: ﴿ونمارق مصفوفة *وزرابي مبثوثة﴾ الغاشية، 15، 16. ونجد الفاصلتين تتباينان في الوزن والقافية، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿الرحمن الرحيم *ملك يوم الدين﴾ الفاتحة، 3، 4. وأحياناً تتحد الفاصلتان وزناً وقافيةً، كما في قوله عز وجل: ﴿فيها سرر مرفوعة *وأكواب موضوعة﴾ الغاشية، 13، 14. ومن الفواصل ما يقترب من حروف السجع، ولكنها تختلف في الوزن، مثل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿مالكم لا ترجون لله وقارا *وقد خلقكم أطوارا﴾ نوح، 13، 14. وفي بعض الأحيان تختتم السورة بفاصلة مختلفة عما سواها من فواصل نفس السورة، كما في قوله تعالى: ﴿فأما اليتيم فلا تقهر *وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث﴾ الضحى، 9، 10، 11. فهذا التنوع في الإيقاع أعطى القرءان تميزاً وتفرداً عن الشعر والسجع.

ب) الكتابة الصوتية :

      إن القرءان الكريم غني بالإيقاع والصوت الشجي الذي يجذب الأذن ويستميلها ويستصغيها. فإذا انتقلنا من موسيقى الفواصل إلى لون آخر من ألوان التنغيم والإيقاع ألفينا القرءان الكريم قد امتاز بالتناغم بين صوت الكلمة ومعناها، أي بما يسمى بـ (محاكاة اللفظ بصوته لمعناه)، أي الكلمة التي يوحي لفظها بمعناها، وهو اتحاد المبنى (أي نغم الصوت) مع المعنى (أي المحتوى الدلالي للكلمة الملفوظة) من اللفظة الواحدة كما مر بنا آنفاً في الحديث عن: (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني).    

      لقد استغل القرءان الكريم هذه الظاهرة الصوتية أمثل استغلال، واستخدمها أيما استخدام، فكثيراً ما هزت الآية القارئ بصوتها قبل معناها. وخير مثال لذلك هو السور المكية، وهي تخاطب المعاندين والكفار والمشركين وأصناف شتى من المنكرين. إننا نجد هذه السور ذات مقاطع قصيرة، وكلمات مرعدة مدوية، وصاخبة الصوت، لأنها أريد بها أن تردع الكفار وتبث فيهم الفزع. فمثال ذلك قوله تعالى: ﴿يوم ترجف الراجفة *تتبعها الرادفة *قلوب يومئذٍ واجفة﴾ النازعات، 6، 7، 8. فحرف المد (الألف) مع الفاءات تنفث في قلوب المشركين الفزع وتبث في دواخلهم الهزات والإرجاف. ومثال آخر نجده في قوله تعالى: ﴿والسماء ذات البروج *واليوم الموعود *وشاهد ومشهود *قتل أصحاب الأخدود *النار ذات الوقود *إذ هم عليها قعود﴾ البروج، 1، 2، 3، 4، 5، 6. ألا ترى أن دوي صوت الواوات مع الدالات (.... وود .... وود) يفعل فعله في تخويف المشركين؟ فهذه الكلمات كأنها – وبقصرها – وابل من (الطلقات النارية المتتابعة) على عدو لا يردعه إلاّ صوت الإطلاق المتتابع للرصاص؛ بل إن الآية الأولى قد مهدت لذلك الصوت المرعد، فبدلاً عن كلمة (الأبراج) جاءت كلمة (البروج).

          هذا في أسلوب إنذار الكفار، وأسلوب التخويف؛ ولكن ماذا في أسلوب العطف والمودة؟

          ففي أسلوب العطف والبشارة نجد لين الخطاب وحنو الكلمة في – مثلاً – الألف المقصورة، وذلك في قوله تعالى: ﴿والضحى *والليل إذا سجى *ما ودعك ربك وما قلى﴾ الضحى، 1، 2، 3. ونجد ذلك في (سين) الهمس بالمناجاة السارة في قول الله عز وجل: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ الإسراء، 1.

      فالكلمة في القرءان الكريم جسم له صوت يهز القارئ والسامع، وله حركة يتحرك معها السامع والقارئ تماماً مثلما تحركهما نغمات (مفاعيل مفاعيل أو فاعلاتن مستفع لن). فالإيقاع القرءاني يحوي الكثير من تنوع العبارة مثل: التقابل، الترجيع، السكت، القطعة، الفاصلة، وغيرها مما يشكل حركة النص الداخلية التي تمنح النص الحيوية المتناهية وتشحن السامع أو القارئ بوجدانيات يهتز لها جسده وتزرف عينه الدمع، وفي ذات الوقت تسكب المعرفة في عقله وقلبه فتتضافر في داخل المرء لذة السماع والقراءة مع نور المعرفة فيهدأ البدن ويطمئن القلب وتسمو الروح، قال تعالى:  ﴿الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله﴾ الزمر، 23.

      نخلص مما تقدم من حديث إلى أن للكلمات موسيقى ووقع في الآذان؛ وقع يطرب، ويشجي، ويخوف، ويسلي، ويشحن النفس بالكثير من العواطف التي سببها ملامسة النغم التعبيري لأوتار النفس والقلب والروح. فللموسيقى كلماتها وأنغامها، وللكلمة موسيقاها وأنغامها، فإذا اتحد الاثنان - الكلمة والموسيقى - بلغ الأثر مداه على النفس.

 

                               ((بتصرف من كتاب: "إعجاز القرءان العزيز للغة الإنجليز"، تأليف عبدالرحمن ود الكبيدة))

      

هوامش الشرح:

 (1) يقضقض: يصطك ويجعل له صوتاً كصوت تكسر الشئ الجاف القوى.

(2) عصلاً: العصل هو المعى.

(3) أسرتها: حبالها وقبضتها أى مصارينها، فالأسر هو القِد (حبال الجِلْد).

(4) الردى: الموت.

(5) المقرور: المصاب بالقر أو البرد القارس. "ومعنى التعبير يحرك الذئب أمعاءه (مصارينه) باشتهاء الطعام فتصطك أمعاؤه  كما تصطك عظام الشخص المصاب بالبرد القارس".

(6) دك الباب (جعفر): نحو نظرة جديدة إلى فقه اللغة، ص 74.

(7) الهاشمى (محمد بن أحمد) : التوضيحات الجلية فى شرح المقدمة الآجرومية، ص 12.

(8) ابن عقيل (القاضى بهاء الدين عبد الله): شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ج 1، ص 18.

(9) دعاس (عزة عبيد): فن التجويد، ص 32 – 79.

(10) الدارمى (الإمام الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن) : سنن الدارمى، 33 كتاب فضائل القرءان، 34 باب التغنى بالقرءان، ج 2، ص 347، حديث رقم 3501.

(11) نفس المصدر السابق، ص 346، حديث رقم 3498.

(12)الهيثمى (الحافظ نور الدين على بن أبى بكر بن سليمان) : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 29 كتاب التفسير، 32 باب القراءة بالصوت الحسن، ج 7، ص 254، حديث رقم 11701.